«يا لها من رسائل تُمَزِّقُ صدرَك وتَذْبَحُكَ بخنجر الحُبّ!..»

صباح الحَرف.. مساء الحَرْف..
وللرسائل بقية، ولَكُمْ صُحْبة ومَحَبَّة.
الرسائل بَوْح. والبوحُ أسرار. والأسرارُ لا نُسَرِّبُها إلا لمن نتأكد من أنه سيحافظ عليها كعينيه.
ألم تَقُلْ جورج ساند (أرماندين أورور لوسيل دوبان): «كلما ازداد حُبُّنا تَضاعف خوفُنا من الإساءة إلى مَن نُحِبّ»؟!
هل يُعقل أن تُحِبَّ امرأة (جورج ساند) رَجُلا وتضيع وقتَها في مُراسَلَة رَجُل آخر (غوستاف فلوبير)؟!
الفراغُ العاطفي هو الذي يُحَرِّكُ قلبَك إلى من تُريد أن تَكُونَ كُلَّ شيء في حياته ويَكُون لك بالْمِثْلِ دون أن تُغَيِّرَ شيئا في حياته سوى النَّبض.
إنه زمن الحُبّ، والكلمة للحُبّ..
الحُبُّ سُنبلة، سنبلة اقتاتَ منها العُشاقُ ما شاؤوا من حَبٍّ، لكنهم كَابَدُوا كُلَّ المكابَدات ما أن تَفْرغَ سُنبلةُ الحُبِّ من الحَبِّ أو تيبسَ أو تعصفَ بها ريح تقتلعها من جذورها، فترحَل السنبلةُ وتَظَلّ حُفْرَتُها شاهدةً على الدفء الذي كان..
عن ذاك الرحيل وعن تلك الحُفْرة، إليكم بهاتين القصتين الداميتين:
القصة الأولى للجميلة الصوت والصورة داليدا (يولاندا جيليوتي IOLANDA CRISTINA GIGLIOTTI)، هذه المطربة التي حلَّقَتْ في سماء النجومية عَرفَتْ نجوميةً أخرى بسعيها الدؤوب إلى الموت الرحيم الذي يُنْقِذُها من ذَيْلٍ كان يَجْلِدُها باستمرار، ذَيْل إخفاقاتها العاطفية، والأسوأ انتحار مَن هَوَتْهُم وعشقَتْهم، انتحارهم تباعا وكأن صَيْدَهم للموت لَعْنَة حلّتْ بهم فباركوها.
هذا الفقدان المدَمِّر لمن أَحَبَّتْهم داليدا حُبّا كبيرا جعل فكرةَ الانتحار تُعَشِّشُ في رأسها، ومن ثم تكرَّرَتْ محاولاتُ ارتمائها في أحضان الموت السعيد كما تصوّرَتْه، الموت السعيد على الأقل بإنقاذها مما كانتْ تُعانيه.
كان من الطبيعي أن تُداوي داليدا إخفاقاتِها بالجرعة الْمُرَّة، جرعة الموت الذي يضع حَدّاً لمآسيك التي لا يدري بها أحد.. وكانت رسالتُها الأخيرة قبل تناولها لجرعات من مُنَوِّمات الفاليوم والترانكسين واللبريوم:
«الحياةُ أصبحتْ غير محتمَلةٍ بالنسبة لي... اغفروا لي...» (فريد الفالوجي، أحمد عبد الرحيم، موسوعة أشهر المنتحرين في العالَم).
وفي هذا يقول فريد الفالوجي وأحمد عبد الرحيم عن داليدا عند محاولة انتحارها السابقة عقب اغتيال حُبِّها للمطرب الإيطالي «لويجي تينكو LUIGI TENCO» الذي أطلق الرصاصَ على نفسه: «قَرَّرَت الانتحارَ وهي بكامل قواها العقلية، بدليل أنها كَتبتْ وصيتَها، كما كَتبتْ ثلاثَ رسائل إلى أصدقائها، وابتلعَتْ كميةً من الأقراص المنومة» (موسوعة أشهر المنتحرين في العالَم).
القصة الثانية للرقيقة «لوب فيليز LUPE VELEZ» زوجة السَّبَّاح الشهير ببطولة أفلام طرزان جوني ويسمولر JOHNNY WEISSMULLER»، فهي الأخرى قادها انطفاءُ شمعة الحُبّ إلى وضع حَدٍّ لفشل غرامياتها بجرعة كبيرة من الأقراص المنوِّمة تاركة رسالةً جاء فيها:
«هارولد.. أرجو أن يغفر اللهُ لك، ويغفر لي أيضا. ولكني فضَّلتُ أن أنهي حياتي، وحياةَ طفلنا قبل أن يقتله العارُ إذا جاء إلى هذه الحياة. كيف أَوْهَمْتَني يا هارولد بأنك تحبني أنا وطفلي المنتظَر في الوقت الذي كُنْتَ تنوي فيه التخلّي عنا؟ ولهذا لم أَجِدْ غير هذه الوسيلة لعلاج هذه الصدمة، فوداعا مع تمنياتي» (موسوعة أشهر المنتحرين في العالَم).
يا لها من رسائل تُمَزِّقُ صدرَك وتَذْبَحُكَ بخنجر الحُبّ!
ليتَكَ عُدْتَ يا سمير (زميلنا البرغوثي) إلى غرفتك القديمة بعمان منذ وقتٍ طويل لتمتعنا بلحن العشق الرقيق المرهَف هذا الذي تتمايل معه أحاسيسُنا الجيَّاشة حنينا إلى عابرٍ افتقدناه ضيفا ومُقيماً، إنه فنّ الرسائل قريبا من شمعة الحُبّ!
ذاك زمنُ الحُبِّ، والغيرة على مَن يستحقُّ الحُبَّ، الحُبّ بحقّ وليس «الحُبّ في الثلاجة» على رأي زميلتنا الرقيقة سمر (الأشقر).
لكن مهلا، فقد أَشَرْتُ منذ تسلُّلي إلى قلبِ حقيبةِ سمير البرغوثي لأُفْرِغَ معه أسرارَها إلى أنني أتأمل أوراقَها وأقف عند ما أملتْه عَلَيَّ من قراءات في ما لَمَّح له صاحب الحقيبة في مقاله «أدب الرسائل في ذمة التاريخ».
معنى هذا ألا ينتظر مني القارئُ وَقْفَةً خاصة عند ما يسمى «أدب الرسائل»، وإنما أستحضره متى دعتْ إليه الضرورةُ، حفاظا على ميثاق القراءة الذي التزمتُ به في باب «بين حرفين» مُنْذُ اتخذتُه مساحة للكشف والبوح والسَّفَر الحالِم في سماء الحرف دون قيود ودون شروط.
كل ما في الأمر أنني أُفَكِّرُ بصوت مسموع، أتأمَّلُ حين يستحقُّ المشهدُ تأملا، أتألَّمُ حين يُسِقِطُني المشْهَدُ في حفرة العذاب التي كلما أَكَلْتَ منها تَكْبُرُ، أَتْرُكُ أدواتي النقدية بعيدا عن اللوحة، أتذوَّقُ، أُقَيِّمُ بما يُمليه عَلَيَّ إحساسي بجمال اللوحة الفنية وروعتها وانسيابية ألوانها وخطوطها سواء منها المرسومة أم المكتوبة أم الشفهية..
بالتالي، فكلما تَطَرَّقْتُ إلى كتابة أحدهم أَجِدُني أَكْسِرُ كُلَّ القيود وأُفَجِّرُ كُلَّ الحدود التي تفصل بيني وبين الكتابة بيتِ القصيد، لأنسابَ في صورةِ بَوْحِ قَلمٍ يَحْفرُ في تفاصيل الكاتب أو الشاعر أو الكاريكاتوريست أو المؤدِّي بصوته..
من هنا لا غرابة أني أسقطْتُ الألقابَ، واكتفيْتُ باستحضار الاسم الشخصي لكل كاتب كما لو كنا (أنا وهو) نَدْرُسُ معا في مدرسةٍ واحدة أو نَلعبُ في فناءِ دارٍ واحد: فردَّدْتُ مرارا اسمَ هاشم (دون كرار) واسم سمر (دون الأشقر) واسم سمير (دون البرغوثي) واسم إيلي (دون صليبا)، وسأردد (وترددون معي) أسماء أخرى على امتداد كتابتي عنها كما لو كان أصحابها أصدقائي لِأُلْغِي بذلك المسافةَ بيني وبين المبدِع وأَقف بين يَدَيْ ما كَتَبَهُ مُسْقِطَةً كُلَّ ما يثقل من خطواتٍ أَمُدّها إليهم لِأَكْتَشِفَهُم وأَقْرَأَهُم في مَرايا مُنْجَزِهِم المكتوب أو المسموع أو المرئي.
لذلك خشيتُ أن ينتظر مني القارئُ أن أُعْطيه دراسةً مستفيضَةً عن أدب الرسائل كما نعرفه، والقصدُ عندي أن أُثَمِّنَ الرسالةَ (العاشقةَ) وأُمَجِّدَ زمنَها وأَتَتَبَّعَ جزئياتِها كما جاءتْ في حياة أَهَمِّ كُتّابها، ومنهم أولئك الذين ذَكَرَهُم سمير كاتِبُ «أدب الرسائل في ذمة التكنولوجيا» في مقالته.
يتجسد أدبُ الرسائل أكثر ما يتجسد في ما أطلقوا عليه اسم ظاهرة أدبية لم يخرجْ أبطالُها عن مي زيادة والعقاد. فقد جمعتْ بين الاثنين علاقة تشقُّ الحجرَ وتُعَلِّمُه كيف يَنطق بمنتهى الرِّقَّة والحُبّ..
كانت مي زيادة (بنت فلسطين ولبنان) صاحبةَ صالون أدبي يتوافدُ عليه الأدباءُ والمفكرون والمثقفون، ومنهم عباس محمود العقاد، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، إسماعيل صبري، ولي الدين يكن، لطفي السيد.. وآخرون.
وعلى ذكر لطفي هذا، فإنه كَتَبَ للأديبة مي رسالةً تترنَّحُ فيها الحروفُ سُكْراً كما يترنَّحُ أسلوبُ صاحبِها تمجيدا لذاتٍ كاتبةٍ وتخليدا لسيرةِ أنثى ينحني لها الذكورُ، ويَطْلُبُ قُرْبَها أَئِمَّةُ صَوْمَعَةِ الفكرِ والأدب.. ولسانُ حالِ الواحدِ منهم يُرَدِّدُ على استحياء ما رَدَّدَهُ شوقي:
«سألتُ حبيبيَ في قُبْلَةٍ/
فَمانَعَنيها بِحُكْمِ الخَجَلْ/
فَلازَمْتُ صَبْرِيَ حتى غَفَا/
وَمِلْتُ على خَدِّهِ بالقُبَل». (أمير الشعراء أحمد شوقي)
لكن السؤالين يا سادة:
هل غَفَتْ مي زيادة (مجازا) لتُمَكّن عُشَّاقَها من صحن خَدِّها كما ذكرتْ ولاَّدة؟!
هل تَفعلُها مي الجميلة المثقفة المتحررة صاحبة صالون ثلاثاء العِشْق؟!
سَمَّيْتُ صالون مي ثلاثاءَ العِشْقِ لأن لقاءاتِها التواصليةَ الأدبية بنجوم الأدب والفكر وما جاورهما كانت تتم يوم الثلاثاء من كل أسبوع، فينصبونها عليهم أميرةَ الكلام الرقيقة الراقية هي العريقة المجد الأدبي والمتشبعة بحرارة الثقافتين العربية والغربية.
لكن يومَ النعيم هذا (الثلاثاء) كما كان يَنْظُرُ إليه ضيوفُ صالون مي لم يكن تكريما للأدب والفن والفكر فيُفْتَحُ من خلاله بابُ المناقشة فقط والخوض في أهم القضايا التي تشغل الفكر، وإنما كان أيضا هذا الثلاثاء جنَّةَ نعيمٍ يتقرَّبُ فيها مُعْجَبو مي ومُريدوها بأشواقهم إليها.
كيف تَفُوتُهم فكرةُ أن يَحْمِلَ لها كُلُّ واحدٍ منهم على كَفَّيْ لسانِه الحُلْو وعينيه ثوبَ احتفاله بسَرَيان حُمَّى الأشواق في كيانه أو انبعاث الحياة في قلبه ووجدانه بفضلها هي عليهم هُمْ.
حقا كان ذاك فضلُها هي عليهم هُمُ الذين كانوا يَجِدُون من غير الحكمة أن يُضيعوا فُرْصةً ذهبيةً كهذه يُغازِلُون فيها الثُّرَيَّا (مي) بِلُغَةِ البلاغة والحوار الأدبي ويُطْفِئُونَ جَمْرَةَ الظَّمَإِ إلى الإبحار في مُحيطاتِ عينيها بتجديد اللقاء عَلَّ الوَصْلَ يتحققُ ولو من بعيد..
فماذا قالتْ مي مُلْهِمَةُ العمالِقَةِ وعباقرةِ الإبداعِ في رسائلها؟!
وماذا قالَ طُلاَّبُ قلبِها وعينيها؟!
«نَعَم أُحِبُّكَ».. هذا جواب مي في واحدة من رسائلها.
أحقا قالتْها مي؟!
ولِمَنْ قالتْها مي؟!
أيعقل أن يَكونَ حُبُّها الحقيقي هو صاحب الطائر الغريب (القلب) الذي حالت بينها وبينه أسوارُ القَدَر وقضبان الزمن الحاقد التي ذبحتْهُما بسيف النوى وأَحْرَقَتْ قلبَها هي لَمَّا رَشَقَتْهُ بِمِلْحِ رحيلِ رُوحِ حَبيبها؟!
(اِنْتَظِروني السبت المقبِل بإذن الله لِنُواصِلَ النَّسْجَ على منوال الحُروفِ وغَزْلَ قُطْنِ الكلامِ وضَفْرَ شَعْرِ البَوْحِ تحت قُبَّةِ بابِ الرسائل..).

بقلم : د. سعاد درير