فوجئت، كما فوجئ كل مراقب محايد متابع لتطور التشريعات في قطر، وتحديداً فيما يتعلق بحقوق المرأة والعمالة الوافدة، بتصريحات السيدة نانسي فيزر، وزيرة الداخلية الألمانية، التي أطلقتها بكل عنجهية، ودون تحقق أو إلمام بكافة الحقائق، وذلك مع اقتراب انطلاق بطولة كأس العالم على أرض دولة عربية لأول مرة في تاريخ المونديال.
هذه التصريحات تنم أولا، وبشكل أساسي، عن جهل تام بقطر، وبعاداتها وتقاليدها وقيمها وقوانينها، التي تقوم على العدل والإنصاف والكرم والعطاء، كما تنم عن عدم متابعة لتقارير أهم مجموعات حقوق الإنسان ومنظمات الأمم المتحدة، التي أشادت بإصلاحات دولة قطر في مجال العمال، وذهبت إلى اعتبارها مثالا يحتذى، لكونها إصلاحات فعّالة وطويلة الأمد، وهي نتيجة سنوات من التخطيط المدروس.
كما فوجئت، بل صُدمت، لمدى جهل الوزيرة الألمانية بحقوق المرأة في قطر، والتي تتبوأ أهم وأرفع المناصب، ناهيك عن كل القوانين التي وضعت لحمايتها ولمساعدتها في القيام بواجباتها المهنية، وبالتزاماتها، كربة أسرة وأم، على أحسن وجه ممكن.
واستغربت أكثر وأنا أقرأ تصريحاتها الغريبة المريبة، وفي قطر سيدة ذاع صيتها على مستوى العالم بأعمالها الإنسانية ومجهوداتها الكبيرة، لإيصال التعليم لكل أصقاع الأرض، ومعالجة المرضى، ورفع مستوى الخدمات الصحية في كل مكان، وإيجاد فرص عمل للشباب لتقليل نسب البطالة، فكانت تكافح على عدة جبهات (تعليم- صحة- عمل) لمواجهة (الجهل والمرض والفقر)، حتى يكون العالم الصحي قادرا على الإبداع والعيش الكريم.
وهنا أتحدث عن صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، التي كرَّست جهودها لتطوير منظومة التعليم في قطر، ودعم الاهتمام بالتعليم وتوفيره في عدد من البلدان، وقد عينتها الأمم المتحدة عام «2003» مبعوثة خاصة للتعليم الأساسي والعالي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، وكانت وراء تعليم ملايين الأطفال المحرومين حول العالم، وحماية المؤسسات التعليمية من الاعتداءات، إيمانا منها، ومن قطر، بأن التعليم يشكل أداة رئيسية وفعالة للتنمية والازدهار، ولإعادة بناء الاقتصادات والمجتمعات التي مزقتها النزاعات والأزمات، وقد حقق برنامج «علِّم طفلًا»، التابع لمؤسسة التعليم فوق الجميع، هدفه الأول، المتمثل في ضمان تعليم «10» ملايين طفل مهمش حول العالم في «2018»، كما يواصل البرنامج السعي لتعليم الأطفال المحرومين من التعليم في جميع أنحاء العالم.
ولأن الشباب هم العمود الفقري لبناء وتطور أي مجتمع، والاهتمام بهم يسهم في تنمية المجتمعات، وينأى بها عن العنف والتطرف والإرهاب، فقد نجحت مؤسسة «صلتك» في توفير مئات الآلاف من فرص العمل للشباب العربي منذ انطلاقها عام «2008»، بالإضافة إلى تقديم الدعم التقني والحلول المبتكرة للجهات الشريكة، لتشجيعها على دعم فئة الشباب وتمكينهم من تطوير مهاراتهم.
لم تعلم الوزيرة الألمانية كل ذلك، ولم تعلم أن المرأة تبوأت منصب نائب رئيس مجلس الشورى، وأن أهم وزارتين في قطر (الصحة والتعليم) تترأسهما وزيرتان فاضلتان، أثبتتا جدارة منقطعة النظير، في وقت حرج، تفشت فيه جائحة «كوفيد 19»، فأدارتا دفة العمل، وحققتا نتائج لا أحسب أن الوزيرة الألمانية تمكنت من تحقيقها في مجالها، وأن قطر بذلت جهودا لم يكن في مقدور أحد أن يبذلها لتعزيز الأمن والسلم الدوليين، عبر وساطاتها الخيرة، ومن ذلك أفغانستان، حيث أوقفت إحدى أكثر الحروب دمارا، ودفعت باتجاه سلام اعتقد العالم بأسره أنه بعيد المنال.
كما لم تعلم الوزيرة الألمانية أن شاران بورو، الأمين العام للاتحاد الدولي لنقابات العمال، قد أشادت، في شهر أكتوبر الجاري، بالخطوات المتقدّمة التي حققتها دولة قطر فيما يتعلّق بتطبيق الإصلاحات القانونية المُتصلّة بحماية العمالة الوافدة، التي تدعم تسريع عملية التطوّر في البلاد، إذ أن قطر تضع حقوق جميع العمال الوافدين في محور سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، استنادا إلى ما تضمنته رؤيتها المستقبلية الشاملة، «رؤية قطر الوطنية 2030»، وبما يتوافق مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة «2030»، والتي تسعى، وبشكل مستمر، إلى تطوير بيئة العمل لتصبح جاذبة للاستثمار، وتطوير بيئة العمل يعني فيما يعنيه تأمين الأجر والطعام والمسكن اللائق للعمال، وفي هذا الإطار افتتحت قطر قبل أعوام (2015) كبرى المدن العمالية وأكثرها فرادة وتطورا، بمساحة إجمالية تبلغ مليونا ومائة ألف متر مربع، وتستوعب مائة ألف عامل، وأشرف على إنجازها وتنفيذها المكتب الهندسي الخاص، واستغرق بناؤها ما يقارب ثلاث سنوات، وهي مجهزة بكل المرافق الأساسية وفق أعلى معايير السلامة، من أنظمة الإنذار المبكر وأنظمة إطفاء الحريق، بالإضافة إلى عدد مناسب من مخارج الطوارئ.
وتنقسم المدينة، التي قدرت تكلفتها الإجمالية بحوالي «411» مليون دولار، إلى قسمين: القسم الأول يضم المنطقة الترفيهية، وتشتمل على ملعب كريكيت هو الأكبر في قطر، يتوافق مع المواصفات والمعايير الدولية.
وبالإضافة إلى ذلك، تضم المدينة مسرحا يستوعب «17» ألف شخص، تنظم فيه الفعاليات المتنوعة والمناسبات الخاصة والمهرجانات، بالتنسيق مع سفارات الجاليات والجهات المختصة، والمنطقة التجارية التي تضم مركزا تجاريا وسوقا مكونة من مائتي محل متنوع، تناسب أذواق وثقافات القاطنين في المدينة، وأربع قاعات للسينما.
ويضم القسم الثاني المجمعات السكنية للعمال التي تم بناؤها وفقا للمعايير العالمية، وتحتوي على خدمات صحية واجتماعية وأمنية، وهو مكون من «55» مبنى سكنيا، بطاقة استيعابية تبلغ مائة ألف عامل.
لا أعتقد أن الوزيرة الألمانية لديها فكرة عن كل ذلك، ولا أعتقد أنها رأت بعينها أوضاع العمال في قطر، والخدمات العديدة والكبيرة التي تقدم لهم، ولا أعتقد أنها على معرفة بأن لا مشردين في قطر يقضون لياليهم في علب كرتونية وسط الشوارع، أو يبحثون في مكبات القمامة عن ما يسد رمقهم.
لذلك، لا يمكن أن نفهم ما قالته الوزيرة الألمانية إلا باعتباره وسيلة للإساءة إلى قطر دونما سبب مفهوم على الإطلاق، في حين تقوم بين بلدينا أفضل العلاقات، وهي متقدمة ومتشعبة.
وفور ظهور هذه التصريحات، قامت وزارة الخارجية باستدعاء السفير الألماني، وتسليمه مذكرة احتجاج بشأن تصريحات وزيرة الداخلية في بلاده، نانسي فيرز، بحق قطر، الدولة المنظمة لكأس العالم، والتي احتوت على تجاوز للأعراف البروتوكولية، علاوة على كونها مجافية للواقع ومنافية للحقائق، وهدفها مجرد الإساءة وتجاهل الإنجازات.
استدعاء السفير الألماني قرار موفق، وهو تعبير عن خيبة أمل دولة قطر ورفضها التام وشجبها للتصريحات التي أدلت بها نانسي فيرز، فقطر ليست ساحة خلفية لتصفية الحسابات السياسية الداخلية في ألمانيا، وهي لن تقبل على الإطلاق مثل هذه الحملات دونما مبرر، ففي خضم استعدادنا لاستضافة كأس العالم، تأتي هذه التصريحات، التي تفتقد لأدنى شروط اللباقة الدبلوماسية، بحق دولة تمثل استضافتها لبطولة كأس العالم إنصافاً لمنطقة ظلت تعاني من صورة نمطية ظالمة لعقود، وهي عملت جاهدة من أجل تنظيم واحدة من أفضل البطولات، بهدف إظهار حضارة المنطقة وتراثها لكل العالم، وتعزيز قيم التسامح بين كافة الشعوب، وهو هدف أسمى، لطالما عملت قطر من أجله وبذلت الكثير في سبيله.
تصريحات فيرز تأتي ضمن حملة ممنهجة ومستهجنة، تتعرض لها قطر من أفراد ومنظمات ووسائل إعلام، منذ أن أعلنت هذه الدولة العربية استضافتها للمونديال، وهي مزاعم باطلة، مبنية على عنصرية مقيتة، فما تحقق من إنجازات على المستوى الإنساني والعمراني في بضع سنوات تعجز عنه دول كبرى، لطالما تشدقت بالقيم الأخلاقية.
هذه التصريحات مرفوضة ومدانة، وهي تنطوي على جهل وسوء تقدير للموقف، ما كنا نتوقع أن تصدر عن وزيرة في حكومة دولة صديقة، لطالما جمعت بيننا أفضل العلاقات وأكثرها تطورا.
وهي لا تشكل إساءة لقطر وحدها، وإنما إساءة عامة، ولدولنا الخليجية خاصة، فالجميع يرى في هذه البطولة فرصة لتقديم الوجه الآخر للحضارة العربية، وقد جاء بيان الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، بالأمس، ليعبر عن موقف مشترك، وفي غاية الوضوح، لجهة إدانة ما صدر عن وزيرة الداخلية الألمانية، بشأن استضافة دولة قطر لـ«كأس العالم لكرة القدم 2022».
إذ أكد الدكتور نايف فلاح مبارك الحجرف الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، في بيان، على موقف دول مجلس التعاون الداعم لدولة قطر في التصدي لأي تدخل في شؤونها الداخلية من خلال نشر الادعاءات التي لا تخدم قيام علاقات طبيعية بين البلدين، باعتبارها انتهاكا للأعراف والتقاليد الدبلوماسية والقوانين الدولية، مؤكدا أن دولة قطر ماضية في تحقيق الإنجازات، وأن استضافتها لبطولة «كأس العالم 2022» يعد مصدر فخر واعتزاز مستحق، مشيدا في الوقت نفسه بالدور الرائد الذي تقوم به دولة قطر في بناء التواصل الحضاري، وتعزيز التفاهم بين الشعوب، في إطار من الاحترام المتبادل.
أخيراً..
الافتراءات لتشويه صورة بلد عربي قدم جهوداً جبارة وغير مسبوقة لتنظيم نسخة استثنائية من المونديال لن تعيقنا عن الوصول للهدف بإذن الله.. فنحن نسير بعزيمة لا تلين.. وعلى نهج الألى «ثابتين».. وكما قال مؤسس البلاد الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني، طيب الله ثراه:
صبرنا لها ما زعزع الدهر عزمنا
ونلنا بها العليا على كل طايل
محمد حمد المري - رئيس التحرير المسؤول