صفعةُ الزمن موجِعة، وكدماتُه كذلك. عندما يصفعنا الزمنُ نشعر بأننا كَبرنا، كبرنا بعشرات السنوات. ضربةُ الزمن تُميتنا موتا بطيئا، تجعل الواحدَ منا كسيحا، فَنَرْقُدُ موتى وما نحن بموتى.
ضحايا عِصِيّ الزمن وأسواطِه يُلازمون فِراشَ الموت البطيء، وصَرْعَاه ينتهي بهم المطافُ مُعَلَّقِين على عَمودِ الوحدةِ الرهيبة، أو في أحسن الأحوال مَصْلوبين على جدار الاغتراب الوجودي.
مِنْ أين نبدأ الحديث عن ضربتك يا زمن يا غدَّار وأنتَ تزجُّ بأعناقنا إلى النار كأنك لا تملّ من أن تَلعبَ معنا لعبتَك السخيفةَ التي هَرِمْنا طَلباً للتخلص من خيوطها التي تَشْبك قلوبَنا تباعا وأنتَ تَنْفث عُقَدَك فينا ومِنَّا وبِنا وحولنا..
هَرِمْنا، هَرِمْنا حدّ أن تُطَوِّقَنا قضبانُ الذكرياتِ التي تَحْفل بأمسنا البعيد أيَّامَ كان لنا صوت وأنفاس وكلمة. هَرِمْنا ونِمْنا على سرير حنيننا إلى ذواتنا قبل أوانِ موسمِ التَّشَظِّي الذي ابتلعَ أحلى ما فينا، ولقينا جزاءَنا من جزاء سنمار، وهذا زمنُنا الذي يَحْكُمُ بالنار يُسَخِّرُ أَلْسِنَتَها لتبتلعَ الرغبةَ رغبتَنا في البقاء قِطعة قِطعة..
فكأن الواحدَ منا حُرْقَةً وقهراً وندما وأسى تَجِده يُرَدِّد مع الخيام في رباعياته:
«لبستُ ثَوبَ العَيشِ لَمْ أُسْتَشَرْ
وحرتُ فيه بين شتَّى الفِكَرْ
وسَوْفَ أَنْضُو الثوبَ عني ولَمْ
أُدْرِكْ لماذا جِئتُ أَيْنَ الْمَفَرّ».
ثورةُ الروح أعلنْتَ عصيانَك لها يا زمن وجعَلْتَها عيدَ موتى ترقص له كما شئتَ، ومَضَيْتَ ساحبا ذيلَ جُنونك. متى تَرْأَفُ بأرواحنا الدامية من وطأةِ جبروتك يا زمن يا مَاجِن وأنْتَ تَعْبث بمسارنا الراهن مُوقِعاً بنا شرَّ هزيمةٍ في معرض طريقك بنا إلى الجحيم، ونسيتَ كيف لها عنا أن تَغْفل عينُ الرحيم..
عندما يتقطَّعُ بنا الحبلُ، ويتركنا القريبُ والبعيدُ، تُظلِمُ الحياةُ، فنَلْتَمِس السبيلَ إلى النجاة، نركضُ ونركض، عَبَثاً نبحث عن صوتنا الضائعِ في زحام الصرخات المقطوعةِ الأنفاس، ويَكْبر فينا الإحساسُ، الإحساسُ بالعجز الذي لا يُطِفِئُ جَمْرتَه سوى تَذَكُّرنا أن اللهَ يَرْأَف بنا..
نتذكَّرُ أن اللهَ معنا، الله معنا ولن يُضَيِّعَنَا.. هكذا آمَنَت السيدةُ هاجر زوجة الخليل ابراهيم، وهكذا نُرَدِّدُ كلما آلَمَنَا صَعْب وضاقتْ بنا الدنيا، الدنيا التي مهما تَنَمْرَدَ فيها الواحدُ منا تَدُوسُه هي فإذا به كما تُداسُ نملة تحت الحذاء، وما أشدّ وطأة حذاء الدنيا!
في الحياة عَقَبات تُبَاعِدُ بيننا المسافاتِ.. نَضيقُ، نَضيقُ، ونَنْأَى عَمَّا تَيَسَّرَ من محطات، محطات لا تَجْمَعُنا إلا لِتُفَرِّقَنا من جديد..
عَلَّمَتْني الحياةُ أنِّي كلما جَرَحَنِي أَحَدُهم أَرْسُمُ وردةً.
علمتني الحياةُ أني كلما فقدْتُ الأملَ في تاجِ الأمومةِ أَطْبَعُ قُبلةً على مِرآة الحرمانِ لِتَطير على بساط النسيم فَتُعانِق كُلَّ طفل يتيم.
علمتني الحياةُ أن القلبَ المعذَّبَ تبكي عيناه لِتَنْعَكِسَ الدمعةُ مِرْآوِيا بَسمةً على شفتيه.
علمتني الحياةُ أن أجمعَ الأشواكَ الملقاةَ في طريقي لِأَصْنَعَ منها جِسْرا إلى رَوْضَة الحُبّ.
علمتني الحياةُ أن أَنْسجَ من آلامي فُسْتانَ حِكْمَةٍ.
علمتني الحياةُ أن أعبرَ نَهْرَ المستحيلِ على جِسْرِ دموعي لِأَبْلغَ قَلْعةَ الْمُمْكِن.
علمتني الحياةُ أن أَقطفَ من شجرة الحُلم فاكهةَ شِتاءٍ تَقِيني البَرْدَ إلى آخرِ العمر.
علمتني الحياةُ أن أَصمدَ كالأشجار، ولا أنحني فأضعف.. أموت واقفة.
علمتني الحياةُ أن أحرقَ أصابعي العشرةَ لِأُضِيءَ مَمْشَى رُوحٍ كَفيفَةٍ أَعْماها الحُبُّ.
علمتني الحياةُ ألاَّ أفتحَ قلبي حتى لا أُغْمِضَ عَيْنَيَّ.

بقلم : سعاد درير