+ A
A -
مَضَت الصغيرةُ تنتفض خوفا كعصفور وقع في يد من لا رَحْمة من بَطْشِ يده.. لم تُحَرِّكْ ساكناً ولم تَنبسْ ببنتِ شفةٍ لما سألها الأبُ في ثورةٍ وصوتُه يَخدشُ مرآةَ براءتها عَمَّا دعاها إلى لمس أشيائه، بل أتفهها: ورق تلفيف..
أجابت بصوتٍ خافتٍ يكاد يَخْشى أن يَجْرَحَ نداه وَردةً: «لَفَفْتُ فيه هديةً كنتُ أُخَبِّئُها لك يا أبي». ما كان من الأبِ إلا أن يتداخلَ عنده الحَرجُ والخَجلُ بعد أن انتصرَتْ عليه صغيرتُه.
تساءل بلهفة طفلٍ: «وما تَكون الهديةُ»؟! أجابتْ بِبراءةٍ: «هي لكَ في هذا الصندوق يا أبي». اِنْتَشَلَ الأبُ الصندوقَ يَسبقه شَغَفُه إلى فَتْحِه، ثم فجأة بُهتَ الرَّجُلُ قبل أن يَصرخَ في وجهِها: «أين الهدية»؟ اِبْتَلَعَت الصغيرةُ ريقَها في وَجَلٍ جَلِيٍّ قبل أن تردفَ: «إنها قُبْلَة يا أبي.. وَضَعْتُ لكَ في الصندوق قُبْلَةً».
الأبُ الثائر كانتْ حالُه كمن تَلَقَّى صَفْعةً على خدِّه، وللتَّوّ غابَ زئيرُه واستيقظ الإنسانُ الذي في داخله، ففتحَ ذِراعيه لصغيرتِه وعانَقَها تقديرا لها على الهدية التي لا تُقَدَّرُ بِثَمَن، وشَكرَ اللهَ الذي مَنَحَهُ هذه الجائزةَ الكبيرةَ: قَلب طفلةٍ يَنبضُ بالحُبِّ ويَرسم بالحُبِّ أحلى لوحة إنسانية.
من يومها تَغَيَّرَتْ أشياء كثيرة في حال الرجُل، ومضى الزمنُ يُجَرْجِرُ خلفه سنواتٍ وسنواتٍ، لكن الأبَ الذي عدَّلَتْ صغيرتُه سلوكَه كان لا يَمُرُّ وقت قصير إلا ويركضُ في اتجاهِ مكانِ الصندوقِ ليستنشقَ رائحةَ الحُبِّ كما رسمتْه له صغيرتُه التي لقَّنَتْه درساً في الحُبِّ الذي كان من الأولى أن يُسارِع هو إلى أن يُعَلِّمَها إياه.
هكذا تَنْمو وردةُ الحُبِّ في تربةٍ خِصْبَةٍ تسمى القلب، قَلْب الطفلة التي تُعَلِّمُ أباها كيف يَتَجَمَّلُ بالحُبِّ ويتفنَّنُ في الإبداعِ بريشةِ قلبِه ليَرسمَ لوحاتٍ إنسانيةً يَرْكَعُ لها الوجدانُ وتَذوبُ أمامها العاطفةُ وتُصَفِّقُ لها القلوبُ التَّوَّاقةُ إلى لَحْنِ الحُبِّ في زمنِ الرصاصِ والقَلْبِ الرصاصِ..
لماذا الجَفَاءُ في بيتِك؟ لماذا التباعد بينك وبين من تُحِبُّ؟ لماذا المسافات تمتدُّ بينك وبين الأقرب إليك من أهداب عينيك؟ لماذا كل هذا وفي وُسْعِكَ أن تُلَوِّنَ باللَّوْنِ الوردي دنياك ودنيا مَن تُحِبُّ بِقُبْلَةٍ لا أكثر.
القُبْلة عربون الحُبِّ، قُبْلَةُ الحياة، هي فَنُّ الحياة وجِسْرُ التواصل الذي تَمُدُّه إلى الآخر الذي تكنُّ له كُلَّ الحُبِّ، ولا يَعْرِفُ أنك تكنّ له كُلَّ الحُبِّ في غياب القُبْلَةِ التي تَطْبَعُها على خَدِّهِ بحنان ويَتَلَقَّفُها هو مِلء الشوق..
القُبْلَةُ دَرس في الحُبّ.. القُبْلَةُ تمتدُّ زورقا حَالِماً بين ضِفَّتَيْ روحِكَ وروحِ مَن تُحِبُّ.. القُبْلَةُ تستحقُّها أُمُّك، يستحقُّها صغيرك، يستحقُّها نِصْفُك الآخر الذي كثيرا ما تتحول العلاقةُ بينكما إلى مجرد علاقةٍ آليةٍ تَجمعُ بقوةٍ وقسوةٍ بين جسمين كُلُّ المؤشراتِ تقول إنهما غريبان عن بعضهما كُلَّ الغُربة..
أَنْت لنصفك الآخر بمثابة البعض من الكُلّ، وعلى هذا الكُلّ أن يُشْعِرَك بالاحتواء، أن يُشْعِرَك بالامتلاء، وكلاهما (الاحتواء والامتلاء) يَغيبُ عن علاقات اليوم التي يتمُّ التخطيط لها من منطلق مادي يَضَعُ في آخر اعتباراته مسألةَ الإحساس فيَقْتُلُ قلبَ العاطفة.
لم أستغربْ أن تُؤلِّفَ صاحبةُ اختصاصٍ بحجم الدكتورة فوزية الدريع (التي تُعَدُّ فخرا للمرأة الخليجية) كتابا كاملا في «القُبْلة»، وهكذا جاء عنوانُه.. أتأسَّفُ لأني لم أقرأ كتابَها بعد مع أني من المعجَباتِ بما تكتبه في «زهرة الخليج» وكيف تجعل من كلماتها بلسما يشفي مرضى النفوس والقلوب.. لكني وجدتُ نسخةً واحدةً من كتابها وأنا متأهبة للخروج من مكتبة أنفقْتُ كُلَّ ما في جيبي يومها وأنا أحمل ما لَذَّ وطابَ من كتبها التي تطير إلينا على جناح الشوق من أهل الشرق، وحين عدتُ في اليوم الموالي وجدتُ نسخة كتاب فوزية طارت هي الأخرى.
القُبْلَةُ عنوانُ الحُبِّ، والحُبُّ زادُ القلوبِ، والقلوبُ مداخلُك وطريقُك إلى الحياةِ، والحياةُ قُبْلَة، والقُبْلَةُ حياة..
بقلم د. سعاد دَرير
copy short url   نسخ
20/10/2016
1883