يعتبر يوم الثاني من ديسمبر عام 2010، علامة فارقة في مسيرتنا، وفي تاريخ العرب ومنطقة الشرق الأوسط، إذ أعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم على لسان رئيسه في ذاك الوقت جوزيف بلاتر فوز قطر بشرف استضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم لعام 2022، متفوقةً بذلك على استراليا واليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة الأمريكية، وأقول علامة فارقة لأنه لأول مرة في تاريخ البطولة البالغ 92 عاما يتم تنظيم المسابقة الأكثر جماهيرية على مستوى العالم في منطقة طالما داعب هذا الحلم مخيلة شعوبها، ولأن قطر بهذا الفوز رفعت راية العرب الرياضية بعد أن أخفقت المغرب ثم مصر في استضافة كأسي العالم 2006 و2010، وأيضا لأنه منذ تلك اللحظة تحول كل قطاع في الدولة دون استثناء إلى خلية نحل، كل فريق فيها يعرف دوره من أجل المونديال، اللجنة العليا للمشاريع والإرث، أشغال، الإعلام، الصحة، الرياضة، السياحة، التعليم، النقل البحري والجوي، الثقافة وغيرها، ونستطيع أن نضرب مثلا بفرقة موسيقية، كل فنان فيها أبدع فيما أسند إليه، ليقدموا معا في النهاية هذه المعزوفة الرائعة التي نراها اليوم، قطر في أتم استعداداتها وأبهى حلتها، وكامل زينتها لاحتضان البطولة.
ونعود إلى أصل الحكاية، فقد بدأت في عام 1978 عندما انقدحت ونضجت في ذهن وعقل القائد الملهم سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني فكرة استضافة قطر لبطولة كأس العالم، ولم يتخل سموه عن هذا الحلم الذي راوده طويلا رغم مرور السنين، إيمانا بعزيمته وقدرة شعبه، وهنا يعلمنا القائد درسا غاليا، وهو أن نحذف من قاموس حياتنا ثلاث كلمات «لا أعرف، لا أستطيع، مستحيل».
في الوقت المناسب أفضى سموه لرئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم بعزم قطر الترشح لاستضافة كأس العالم، وبدأ الحلم يأخذ طريقه إلى أرض الواقع، وجرى العمل في كل المواقع، بدأ تجهيز الملف بإشراف مباشر وتوجيهات حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، وبسواعد كوكبة من شباب قطر آمنت بوطنها واستلهمت من القائد ثقتها بنفسها، فشكرا سمو الأمير الوالد الملهم، وشكرا قائدنا ورمز عزتنا أمير البلاد المفدى، بفضل الله وتوجيهاتكما العالم كله يركز علينا ويشير بالبنان إلينا.
ليس سرا أن الكثيرين كانوا يستبعدون فكرة فوز قطر نظرا لقوة الدول المنافسة إلا قيادتنا، فقد كانت الثقة في النفس لا حدود لها، فإن فزنا فالفوز لكل العرب، وإن أخفقنا فنتحمل النتيجة وحدنا، ويكفينا شرف الإقدام، لكن الكفة كانت تميل نحو الفوز كثيرا
قدمت الدول التي أعلنت الترشح ملفاتها، وكانت المفاجأة التي أدهشت اللجنة التنفيذية في الفيفا، فالملف القطري يتفوق في محتوياته وقدراته على الملفات المنافسة بمراحل، ويتجاوز معايير وطموحات الفيفا بفارق كبير، ذلك لأن اللجنة التي أعدته راعت في كل جوانبه الركائز الأربعة لرؤية قطر الوطنية 2030، التنمية الاقتصادية، التنمية الاجتماعية، التنمية البشرية، التنمية البيئية، تأكدت أننا نقدم «أفضل تنظيم» فالملاعب على مسافة 60 كيلومترًا فقط من بعضها البعض عدا ملعب واحد، منها تسعة جديدة، يراعي في تشييدها رؤية معمارية فريدة، جمعت فخامة الغرب وسحر الشرق وهوية قطر وتراثها العريق، بالإضافة إلى خطة طموحة تضمن خلوها من الكربون باستخدام أحدث تقنيات الطاقة الشمسية؛ لتكون صديقة للبيئة وتخلق الظروف المثالية للاعبين في المستطيلات الخضراء والمتفرجين في المدرجات، كما تضمن الملف الدليل على امتلاك قطر سجلا تاريخيا مشرفا لاستضافة وتنظيم البطولات الرياضية الكبرى.
ولندع الحديث عن الملف الذي يحتاج ألف صفحة وصفحة وننتقل إلى جانب من الاستعدادات يتعلق بأشغال، فمنذ اللحظة الأولى نرى بأعيننا تسطير ملاحم خلاقة لتنفيذ المشروعات المتعلقة بالبطولة وفق أعلى المعايير العالمية، وإنجاز الطرق المحيطة بكل الملاعب لتسهيل الوصول إليها، وشبكة متكاملة متطورة من الطرق السريعة بمعايير عالمية تخدم جميع مناطق الدولة وتربط فيما بينها.
الرفاه الاجتماعي حاضر بقوة يعيشه ضيوف المونديال بتوفير أماكن ترفيهية كالشواطئ والحدائق العامة والمباني الخدمية ومسارات المشاة والدراجات الهوائية وشبكات تصريف المياه واستخدام كل هذا كإرث مستدام لما بعد البطولة، كان الحرص قويا على إضفاء الطابع العربي والإسلامي وإبراز الهوية القطرية على المباني والمنشآت والمشروعات التي تنفذها بالتعاون مع جهات الاختصاص في الدولة كوزارة الداخلية، واللجنة العليا للمشاريع والإرث. جمال اللمسات الفنية تمثل باللوحات الإلكترونية لإعلام الجماهير بحالة الطرق، وكيفية الوصول للإستاد ومواقف السيارات الخاصة بالجماهير بمختلف تصنيفاتها، لمتابعة الوضع أولا بأول من خلال مراكز للتحكم تعمل بأحدث التقنيات.
وتتواصل ملحمة البناء والتنمية والرخاء، لتصل بوابات قطر إلى العالم، مطار حمد الدولي، ومطار الدوحة الدولي، وميناء حمد الدولي، فمن النتائج التي تثلج الصدر حصد مطار حمد الدولي لقب «أفضل مطار في العالم» للعام الثاني على التوالي، في مسابقة مع 550 مطارا عالميا، وبعدما حل في المرتبة الأولى ضمن حفل جوائز «سكاي تراكس» العالمية للمطارات 2022، الذي أقيم على هامش معرض ومؤتمر المطارات العالمي في باريس، وأحدث فصول هذه الملحمة افتتاح التوسعة الجديدة قبل أيام، لمزيد من انسيابية حركة الطائرات والمراقبة الجوية، بالتزامن مع تدفقات المنتخبات والزوار والمشجعين إذ من المقرر أن تصل الحركة الجوية خلال مونديال قطر إلى أكثر من 1600 حركة جوية يوميا، معدلات السلامة 100%، وما يقال عن ملاحم التطوير في مختلف المواقع ينسحب على مطار الدوحة الدولي والموانئ البحرية وفي المقدم ميناء حمد الدولي ثالث موانئ العالم، وتطوير ميناء الدوحة وتحويله إلى مرسى سياحي، والمساهمة في استيعاب النمو المتوقع في عدد الرحلات البحرية من أجل البطولة، ولتعزيز تجربة سفر سلسة ومريحة دعمت الخطوط الجوية القطرية كوادرها البشرية بآلاف الموظفين الجدد كما وفرت باقات سفر جديدة بمناسبة البطولة،
أما عن التطور المذهل للنقل الداخلي فلا يجهله أحد، إذ تم إنجاز شبكة خطوط مترو الدوحة، والطرق السريعة، والحافلات الكهربائية، وشبكة الترام الخفيف المتصلة بالمترو وكلها صديقة للبيئة.
وفي شأن الاستعدادات الصحية نستطيع القول إنها أضافت للبنية التحتية منذ عام 2011 عشرة مستشفيات جديدة على أحدث طراز، و16 مركزا حديثا ومتطورا للرعاية الصحية الأولية، وتم تشكيل عدد من فرق الرعاية الصحية في كل من وزارة الصحة العامة، ومؤسسة حمد الطبية، ومؤسسة الرعاية الصحية الأولية، وسبيتار، وسدرة للطب، والهلال الأحمر القطري، والقوات المسلحة القطرية، ووزارة الداخلية، والخدمات الصحية الخاصة في قطر للطاقة، ستجتمع معا لتقديم خدمات الرعاية الصحية والإسعاف في الملاعب والمناطق المخصصة للمشجعين ومناطق التدريب، وإحصاءات لجنة المشاريع والإرث تؤكد وجود 100 عيادة طبية في الملاعب.
وفيما يتعلق بالمراكز الإعلامية المتميزة لاستضافة الإعلاميين في كل الملاعب، وقاعات المؤتمرات الصحفية متوفرة ومجهزة بأحدث وسائل الاتصال، لنقل فعاليات البطولة إلى أرجاء الدنيا نقلا صحفيا مطبوعا تلفزيونيا وإذاعيا وإليكترونيا، كما أن وجود أكبر وأشهر مؤسسة إعلامية (قناة الجزيرة) الإخبارية التي تبث أخبار العالم بكل لغاته متزامنة مع لحظات وقوعها، أو الرياضية المحترفة والمهنية التي يشهد لها بتغطية شتى الأحداث الرياضية والكروية في أوروبا والعديد من دول العالم، جاهزة للتعامل باحترافية مع الأعداد الكثيفة من الإعلاميين، الذين سيتواجدون في مواقع البطولة، وهذا ما شجع الوكالات العالمية في إرسال مراسليها، فلن يَجد الإعلامي الراغب في تغطية الحدث أدنى مشكلة عند ذهابه لتغطية الحدث بالصورة والكلمة، لأن قطر تقدر جيداً دور الإعلاميين وتحترم رسالتهم.
وقد شيدت الدولة سلسلة فنادق عالمية عائمة بتصميمات إبداعية فريدة ورائعة جديدة لاستضافة الجماهير، تضاف إلى العدد الكبير الموجود من قبل من بينها الفنادق التقليدية والأخرى العائمة التي تقدم خدمة فندقية وفق أعلى المعايير السياحية وبأسعار تنافسية.
هذه البنية السياحية وضعت قطر على خريطة السياحة العالمية إذا أخذنا في الاعتبار سلسلة المتاحف الفريدة المتخصصة التي ستبهر ضيوف المونديال بتصميماتها ومقتنياتها المتنوعة منها ما يعكس هوية وثقافة وتاريخ قطر المجيد، ومنها ما يحكي تاريخ الإنسانية بشكل عام في مراحل وعصور حضارية متنوعة مثل متحف قطر الوطني، متحف قطر الأولمبي والرياضي، المتحف العربي للفن الحديث، متحف الفن الإسلامي، وخلاصة الكلام هنا أن من يزور قطر بعد المونديال سيجد الدوحة متحفا مفتوحا من روعة المنشآت وفخامتها وعناصر الجمال التي لا تخطئها العين في كل مكان.
أما مشهدنا الثقافي فسوف يكون مثار إعجاب الضيوف الذين يأتون إلى المنطقة لأول مرة، سوف ينبهرون بهذا الثراء الثقافي الذي يروي حكايتنا، ويعتز بهويتنا، وفي نفس الوقت ينفتح على بقية الثقافات، لسوف ينبهرون بمشاهدة آلاف الفعاليات الثقافية والترفيهية والفنون البصرية والموسيقية والمسرحية التي استعدت بها وزارة الثقافة ومتاحف قطر وكتارا.
ومما يشكل مفاجأة لهم هذ العدد الهائل من كبريات وأشهر الجامعات العالمية التي افتتحت فروعا لها في قطر، ضمن مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، فضلا عن جامعاتنا الوطنية، ومؤسسة التعليم فوق الجميع والمراكز البحثية والمبادرات التي جسدت المعنى الحقيقي لمقولة التعليم هو الحياة والوجود، وهذا التنوع في المدارس القطرية، فضلا عن العربية والأجنبية التي تؤدي رسالتها على أرض قطر الحبيبة.
أختم ما بدأت بالشكر لقيادتنا وكل من ساهم في هذا التحول النوعي الكبير مع استضافة البطولة وأقول: «كفيتو ووفيتو».
بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري - خبيرة تطوير التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية