تستيقظ بلدي «ديرغسانة» في ذاكرتي ملاكا نورانيا،والدي يتوضأ لصلاة الفجر، ووالدتي تعد «العجين» للخبيز، ورائحة قهوتها تداعب حاسة الشم برفق.. صهيل الحصان الموثوق إلى جذع اللوزة، يبعث الجلبة في «الحارة» الهادئة في كل الفصول.. قطتي الفضولية تتربص حركتي تقفز تخدشني.. تحرمني النوم.. اقفز من فراشي اتخطى اسرة اخوتي، نحو الباب الواسع، صوت المؤذن يعلو يتردد صداه بين الجبال.. ترتفع «النحنحات» من بيوت جيران أبي.. اخوته وابناء اخوته، وابناء عمومته.. لا أحد غريبا يسكن في الحارة.. فقط مديرة مدرسة البنات.. القادمة من جنين كان اسمها «نهاد» تقطن في منزل ابن عم أبي المجاور، حيث هجره وغادر إلى الكويت قبل العدوان الثلاثي على السويس بعام.

ترتفع أصوات اقدام الخيل مُكرة في الشارع الطويل الذي يصل حارتي ببلدتي.. فرسان يتابعون «بعثيا.. شيوعيا.. هاربا من التجنيد الالزامي» لا ادري.. كنت طفلا مرت «الجلبة» سريعا، رافقت والدي إلى المسجد عبر طريق فرعي خلفي حتى لا نتقابل مع الجنود.. بعد الصلاة.. تقدم من والدي «أبو الزعيم» برغوثي من عائلتي يدعوه للانضمام إلى «الاخوان المسلمين» لم يعره والدي اهتماما.. ذهبنا إلى وسط البلد. فقد بدأ «أبو سعدية» اللحام بذبح بقرة وتوزيع لحمها حسب التواصي.. كان هناك شاب يتجمع حوله الشباب يتحدثون عن «الماركسية» وفي زاوية أخرى شباب يتحدثون عن «البعثية» وآخرون يتحدثون عن الناصرية، وغيرهم عن القومية.. و.. بلدتي الصغيرة فيها كل هذه التناقضات لم اعرها اهتماما، فوالدي كان يردد دائما ابتعد عن السياسة ففيها «النحاسة».

كن على خلق.. تصادق الجميع، استمع من اذنك اليمنى.. واخرج ما تسمع من اذنك اليسرى.

تستيقظ «دير غسانة» في ذاكرتي محتلة.. دبابات الاحتلال الاسرائيلي تجوب شوارعها اختفى الحزبيون جميعا.. وتناثروا جميعا لعنوا «ماركس» الذي خذلهم، ولعنوا «عفلق» الذي ضللهم. ولعنوا.. ولعنوا.. وقالوا: ليس هناك الا المقاومة.

تنام ديرغسانة في الذاكرة.. مع الرحيل وقدماي الهزيلتان تعبران جسر الاحزان.. وصوت فيروز في ذاكرتي يستيقظ يغني اللحن الابداعي..


تسعة واربعون عاما ودير غسانة تنام في ذاكرة ابنائها الذين هجروها، يرسمون خريطة الطريق إليها، يتوهون يعودون يرسمون، يعجزون، يتركون للغير رسم الخرائط ولا يعرفون أي خريطة تعيدهم إلى تلك البلدة الجميلة التي مازالت تصحو على صوت المؤذن، وجلبة العسكر الباحثين عن المقاومين.
تبعثرت الخرائط.. القاهرة عاجزة.. وبغداد متشرذمة.. ودمشق تواجه الموت.. فقط هي المقاومة التي يمكن أن ترسم خريطة جديدة تعيد الهدوء إلى طفل ينتظر الولادة منذ نصف قرن ليضع وردة على قبر جده الذي مات وهو يأمل بشمس تشرق على وطن اسمه «فلسطين»؟!

نبضة اخيرة
العصافير العاشقة تبني أعشاشها مبكرا.. وتصل إلى الثمرة الناضجة مع تنفس الصبح.
بقلم : سمير البرغوثي