+ A
A -
بدا لي كأن شمسَ الأمومة تضربني بأشعتها الأخَّاذة المداعِبة وأنا أتألَّق بضيائهم وسِحْرِ براءتهم كما تتألق الزهرةُ وحولها سِرْب فَراشٍ أو سِرب نحل يتسابق على تقبيلها.. في حضورهم تُمْطِرُ سماءُ هواهم قُبلاتٍ ووابلَ أشواقٍ ويَتَفَجَّرُ في حضرتي شلالُ عناقٍ..
قال عبد الرحمان: «عمتي، احكي لنا حكايةً كحكاية البارحة». أَيَّدَتْه سلمى التي تكبره بسنتين: «نعم عمتي، ماذا بعد حكاية الْمَلِك الذي رأى أن يفرش أرضَ بلاده بالجِلْد تجنبا لما عَلِقَ بقدميه من أشواك ووَرمَتا بسببه من حجارة، فكان خادمُه أذكى منه حين اقترح عليه أن يكتفي بوضع قِطعتَيْ جِلْدٍ تحت قدميه وكان ذلك بداية صناعة الحذاء..»؟ واصَلَتِ الإلحاحَ آية وهي أصغرهم وقد طَبَعَتْ على خَدِّي قُبلةً دافئة: «أرجوك خالتي، فحكاياتُك الشيِّقةُ أُحِبُّها أُحِبُّها..». أَحَطْتُهم بحناني مُتَفَرِّغَةً لهم فأنا لا أراهم إلا في العُطَل، بل منهم من لم أَرَه منذ أكثر من سنة.. ومضيتُ أحكي: «في يوم.. كانت هناك طفلة جميلة.. بيت دافئ.. مدينة نائمة على كَفِّ البحر.. كانت هناك حورية.. وكان.. وكان..».
لا أخفيكم أنهم يتلذذون بحكاياتي كلما زاروا جَدَّهُم وجَدَّتَهم، لكني هذه المرة (قبل شهر) ضاعَفْتُ جُرعاتِ الحكي هروبا من فوبيا الفراق، فقد كان زفاف أخي الأصغر على بعد أيام، كان آخر مَنْ تبقى في بيتنا من إخوتي، علاقتي به خاصة، وكنتُ أَفِرُّ إلى صغاري لأسترسل في الحكي تجنبا لوطأة الذكريات التي كانت تُرْهِقُ عينيَّ.. كل ركن في الطابق الأول كان يذكرني بأخي حيث توجد غرفته خلف الحديقة الأمامية وغرفتي خلف الحديقة الخلفية، أما أُمِّي وأبي في الطابق الثاني لا يفطنان غالبا إلى عدد المرات التي نتشاجر فيها ونتصالح لنضفي على المنزل حيوية ومرَحاً.
من أكثر المواقف سخرية أني كنت أتعمد الاتصالَ بأخي هاتفيا لمناقشته في أمر أو استشارته أو المزاح معه وهو في الطابق نفسه، لا يفصل بيننا سوى بهو وغُرَف، فإذا كنت في حاجة إلى رؤيته أقول له «طيب اِلتحِقْ بي في غرفتي»، أو أقول: «قادمة إليك، لا تتحرك من مكانك»..
كلما سافر أبي وأُمِّي لِتَفَقُّدِ منزلهما الآخَر شمال شرق المملكة كنتُ أتقمص دورَ رَبَّةِ البيت الخبيرة لا لشيء سوى لأُمْتِعَ أخي، أتصل به لأسأله ماذا يشتهي لأُحَضِّرَ له، فأُنَوِّع له طاولةَ العشاء (التي أنقلها على الواتس إلى أُمِّي لأُرضيها فتطمَئِنّ) لاسيما وأن عملَه كان يقيده فيُعْفِيني من مجيئه إلى البيت عند الظهيرة لضيق وقته، وأكتفي لنفسي غداءً بوجبة سريعة لأتفرغ لعملي. كان أخي يرافقني إلى المسرح، وأحيانا إلى اللقاءات الثقافية، قال لي مرة وأنا على منصة تقديم قراءة نقدية في كتابٍ أمام حشدٍ من المثقفين: «كنتِ تبدين ناصعةَ البياض»، فضحكتُ.. كأنه لأول مرة يراني.
تفنَّنْتُ في تحضير «الطاجين» والسمك المبخر بالتوابل و»الحرشة» والحلوى المغربية.. أبدعتُ في العصير والشاي وشرائح البرتقال المحشوة باللوز والمحلاة بالسكر والقرفة.. طحنتُ اللوز المقلي والجوز، والسمسم المحمص، وأضفت قدرا من السكر والقرفة وكمية من العسل الحر، خلطتُ الكل ورششتُه بماء الزهر ووضعتُه في علبة بلاستيكية خاصة بالثلاجة لإفطارنا أنا وأخي..
هذه اللحظات الدافئة أفتقدُها الآن. الأُخُوَّةُ لا تُقَدَّرُ بثمن. ما أجمل أن يحتفل العالم بعيد للأخُوَّة! ما أجمل أن تجدَ الواحدةُ أخا قريبا منها، يمازحها، يتسلل إلى غرفتها ليفاجئها بشيء، تتسلل إلى غرفته لتُفسدَ شيئا، يتفقَّدُها إذا تأخَّرَتْ، يرافقها إذا ابتعدت، ويحمل إليها الوردَ إذا تَغَيَّبَ لسفر!.. أجدُني الآن بمفردي في الطابق، أحمل فنجان قهوتي منتصفَ الليل إلى طاولة الحديقة، أرتشف منها لتندلق قُبالةَ عينيَّ كأسُ الذكريات، كيف كُنَّا أنا وإخوتي نملأ البيتَ دفئا..
للصمت جَبَروت يُصيبُ البيتَ بتَصَدُّعٍ، ولغياب الإخْوَة وقع التصحُّر. كل شيء يتغير، الصغير يكبر، والكبير ينشغل.. صغار إخوتي يُلَوِّنُونَ الحياةَ بالوردي ويرسمون لشمس الحياة شفتين تُشرقان بابتسامةٍ ما أروعها حين تَعْكِسُ ابتسامةً موازيةً على شفاه أمي وأبي اللذين أقرأ إحساسَهما بخواء البيت لولا ما أخلقه من مُناسباتٍ تافهة لِأُجَدِّدَ دماءَ الحياة في شرايين المكان والزمن. اِستمتِعوا بالدفء قبل أن يَطيرَ بلا أجنحة، تَحابُّوا أنتم وإخْوَتكم وصغارهم، اِشْبَعُوا من القُبُلات والْمُداعَبات، فهم مَن يخلق الدفءَ للبيت ويدفع عربةَ الحياة لتتحرك إلى الأمام.
نَافِذَةُ الرُّوح:
»لَمْلِمِي دُمُوعَكِ يا عَين، فالليلُ شيخ حكيم أخشى أن تَجْرَحَهُ حُفَرُ خُطاكِ».

بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
03/11/2016
2114