كنت جالسا في مكتبي أقلّب بروفات العدد المزمع صدوره في اليوم التالي، أدقق بين السطور، وأفتش بين الكلمات، أراجع ما سينشر وأدوّن ملاحظاتي، وأبحث عن خطأ اصطاده طالما في الوقت متسع قبل دوران ماكينة الطباعة وظهوره للعلن عبر موقع إلكتروني أو مع الباعة!
ننجح مرات ونخفق في أخرى، هذا ديدن عملنا وواقعنا، هضمناه وارتضيناه، فمهما كنت مجتهدا لابد من مساحة للخطأ، وهكذا الحال لوسائل الإعلام.. بين آمال وأحلام وأقلام وآلام!
رن هاتفي الجوال، وقطع حالة الاندماج، وإذا برقم شخص عزيز دائم الاتصال والسؤال عن الحال، وهذه المرة أضاف لها سؤالا عن الجزيرة، وماذا أتوقع لها في ذكرى العشرين عاما على تأسيسها..
سؤال مفاجئ لكن جوابه محيّر.
نعم ماذا ستقدم الجزيرة من جديد في عالم الإعلام المرئي والرقمي، وهي تتربع على قمته متفردة ومتسيدة..؟
وتذكرت حينها أن الصعوبة لا تكمن في الوصول إلى القمة ولكن في المحافظة عليها..
عندما تكون في مرحلة الصعود يكون الطريق أمامك للقفز والسير والركض، ولكن عند الوصول للهدف تضيق الخيارات، وتنحسر المسارات، وتتكرر الأفكار ويضعف الابتكار..
هذا هو الحال مع السواد الأعظم، لكن مع الجزيرة كان الوضع مختلفا واستثنائيا، فالإبداع نهر جارٍ، لا ينضب، يروي متابعيه بكل جديد، ويغذيهم بكل ما هو مفيد حتى بات التميز علامة مسجلة باسم القناة.
قبل فترة أتيحت لي الفرصة وتشرفت بلقاء حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى، بحضور رؤساء التحرير وبعض الإعلاميين، وكانت جلسة ودية تطرق فيها، حفظه الله، لعدد من الملفات الداخلية والخارجية، وأعطانا سموه من وقته الثمين رغم التزاماته الكثيرة، ودار الاجتماع بشكل مثالي، تحدث فيه سموه بكل شفافية، وأتاح للزملاء الوقت الكافي لطرح تساؤلاتهم، وأجاب عنها بوضوح، وخلصنا إلى نتيجة صحيحة ومريحة، وهي حرص سموه على دعم الإعلام وتسهيل حصوله على المعلومة، ليقوم بدوره الرقابي في رصد الإيجابيات والسلبيات، وفق المعايير المهنية والمصلحة الوطنية.
صاحب السمو الأمير الوالد قال، في الكلمة التي شرّف بها احتفال الجزيرة بالذكرى العشرين: «دولة قطر قررت منذ عقدين من الزمان تأسيس منبر إعلامي عربي، يتيح لشعوب المنطقة رؤية نفسها ورؤية العالم بعيونها، لا بعيون الآخرين، وينشر الحقيقة بين الناس، ويرفع مستوى الوعي بينهم.
وعندما أرتب هذه الأفكار وأضعها في سياق مترابط وإطار واحد، نخلص إلى أن صاحب السمو الأمير المفدى وصاحب السمو الأمير الوالد يشتركان في قناعة واحدة في ما يتعلق بالإعلام، وهي أن نهوض الدول والمجتمعات متصل بوجود إعلام مهني وموضوعي وصادق وذي صوت فاعل ومؤثر، يساهم في ترسيخ القيم الإيجابية، ويحارب الفساد والظلم.
من هذه الرؤية الثاقبة ولدت قناة الجزيرة في قطر، لتعلن ثورة إخبارية تليفزيونية غير مسبوقة في المنطقة، فكانت بمثابة بداية «الربيع الإعلامي» مما فاجأ زميلاتها الغارقة في الرسميات والتي قضت عمرها في «استقبل وودع» وأخبار ما يطلبه المسؤولون، لتقدم الجزيرة خطا تحريريا مختلفا حافلا بالجرأة وكافلا للمهنية ومتسما بالموضوعية، مما نفض الغبار عن كثير من المحطات، وحاولت التغيير من سياساتها وانتهاج طريقة الضيف الثقيل الذي قض مضاجعهم، وزاد من أرقهم، لكن أغلبها فشل في المجاراة وخسر قبل بداية المباراة، فظهرت تلك المحطات عاجزة متبلدة، كمنتجات مقلدة، فيما بقيت الوكالة الأصلية والعلامة الحقيقية حصريا وعصريا على شاشة الجزيرة.. الخطيرة.. المثيرة.
وإذا كان العرف السائد في الإعلام وغيره أن البناء يتم بالتدريج والنمو يحتاج لوقت ورعاية وعناية، إلا أنه حري بنا القول إن هذه القناة «ولدت بأسنانها» وظهرت أظافرها ومخالبها مع الساعات الأولى لبثها، فاختصرت المسافات واختزلت السنوات، وظهرت ناضجة قوية ومستعدة للتحديات والأزمات.
ورغم الظروف الصعبة التي ولدت فيها وتعقيدات المشهد السياسي وحساسياته في حينها، إلا إنها صمدت أمام كل الضغوط، ورفضت الخنوع والخضوع، وقدمت رسالتها للعالم العربي والعالمي، وقبل ذلك التضحيات الكبرى من فريقها الصحفي، والذي منهم من استشهد، ومنهم من قضى زمنا طويلا في غياهب السجن والاعتقال.. فكانت شاهدة حق، ولسان صدق، تقدم الرأي والرأي الآخر بلا حدود أو قيود، وشاهدة على العصر، وتبحث عن الخبر وما وراءه، سواء كان «في العمق» أو «تحت المجهر».. وتستمع لجميع وجهات النظر عبر البث المباشر أو «الاتجاه المعاكس»..!
الجزيرة «قناة الشعوب» تقف إلى جانبهم، وتدعم قضاياهم العادلة، فكانت بمثابة البعبع للأنظمة القمعية والمتسلطة، تكشف فظاعة أعمالهم، وتعري أفعالهم التي غابت عنها أبسط القواعد الأخلاقية والمبادئ الإنسانية، ونجحت بإيمانها الراسخ بدورها ومنهجها ورسالتها في تحقيق الكثير من الانتصارات والإنجازات، مدعومة بحب الناس والتفافهم حول شاشتها، بعد أن تأكدوا أنها أقرب لهم من تليفزيونات دولهم وحكوماتهم.
وهذا جعلها تتعرض للتضييق وحبس مراسليها والتشويش على تردداتها، كل ذلك في سبيل حجب الصوت والصورة عنها، لكتم أنفاسها، وقطع العلاقة بينها وبين مشاهديها، لكن في كل مرة تعود أقوى وأكثر تأثيرا وشعبية وجماهير، فهي تعمل بخط واضح وصريح، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح.
قاطعوها وحرضوا عليها، بل وصل الأمر إلى سحب سفراء، كما أفاد رئيس مجلس إدارتها الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني، الرجل الذي يعمل بصمت وهدوء وحكمة وحنكة، كان لها الدور الأبرز في ترجمة المشروع من فكرة إلى إنجاز بامتياز، ورغم كل ذلك.. استمرت الجزيرة في تحديها.. في تصديها.. في سيادتها.. في ريادتها.. إنها قناة الحقيقة والإنسان.
كانت الجزيرة الشاهد الذي رأى القتل وفضح القاتل، كانت الشاهد الذي رأى التدليس ففضح المدلسين، وكانت الشاهد الذي رأى عذابات الناس، فنقلت للعالم عذاباتهم وهمومهم. لم تكن «شاهد ما شفش حاجة» لم ير ولم يسمع، لقد رأت وسمعت ونقلت بكل أمانة ومهنية، فأثارت الغضب والحنق والأرق والقلق، وصار رأسها هو المطلوب، وليس رؤوس القتلة والفاسدين والمتاجرين بقضايا الأوطان وهموم الناس.
كانت الأمور تمضي على ما يرام، وكانت الجرائم تقيد ضد مجهول، لكن الجزيرة أعادت فتح القضايا، وحملت صيحات المظلومين وآهات ضحايا العنف والاضطهاد، وسلطت عليها الأضواء..
عام 1996 انطلق بث قناة الجزيرة من «علبة كبريت» كما وصفها أحد الشخصيات الكبيرة المعروفة، والذي كان في زيارة للدوحة، مستغربا من صغر حجمها وضخامة عملها، لتصبح لاحقا من أغلى العلامات التجارية.. الأفكار العظيمة تطلقها عقول عظيمة، قادرة على استشراف المستقبل، والتأثير في مجرياته، وتقديم المبادرات الكبيرة التي تترك أثرا عظيما فيه، ليس المهم أين يمكن للمرء أن يطلق فكرته، المهم أن تكون هذه الفكرة جديدة وفريدة ومفيدة.. هكذا كان الأمر مع رواد المبتكرات الهامة عبر التاريخ، وخلال العقود الماضية تمكن هؤلاء الرواد من جعل حياتنا مختلفة كليا بفضل تكنولوجيا جديدة صنعتها الأحلام والأفكار، ليصبح ذلك جزءا هاما ورئيسيا من حياتنا.. الجزيرة واحدة من تلك الأفكار العظيمة، انطلقت لمواجهة منظومة إعلامية غربية هائلة ومحترفة وجيش ضخم من وسائل وأدوات ناطقة باللغة العربية أو اللغات المحلية للمناطق المستهدفة، لغزو العقول والقلوب، إذ أن جوهر الأهداف الاستراتيجية للحروب النفسية، هو تدمير المعنويات وترويج الدعاية السوداء وتضليل الرأي العام والسعي الجاد لتطبيع الهزيمة وغرسها في نفوس الأجيال. يقول ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العالمية الثانية «إن الأكذوبة تقوم بدورة كاملة حول العالم قبل أن تنتهي الحقيقة من ارتداء ثيابها». لقد صورت وسائل الإعلام الأميركية قضية الصراع العربي الإسرائيلي على أن الإسرائيليين هم ضحايا ومحبون للسلام، وعملت على تنميط صورة المسلمين والعرب بإطار إرهابي، كما عملت مراكز الإعلام الموجهة على تعبئة الذاكرة الغربية بأنماط مشوهة، ولم ينضج حتى الآن جيل سياسي وبحثي وإعلامي غربي، خارج إطار هذه الصورة المعكوسة، لذلك كانت الجزيرة الانجليزية، التي ساهمت في تغيير الصورة النمطية المضللة وقدمت رؤية مختلفة، موضوعية وشفافة، وصارت، كما وصفها صاحب السمو الأمير الوالد، منافسا قويا، وصوتا ذا مصداقية وحضور، وحررت الرأي العام العالمي من الاحتكار الإعلامي، وديكتاتورية الصوت الواحد، ومكنت شعوب العالم من سماع أكثر من صوت، والانفتاح على أكثر من رأي.
عندما نتحدث عن الأفكار والرؤى العظيمة، لابد من الحديث أيضا عن تطبيق هذه الأفكار، وعندما نتحدث عن التطبيق، فيما يخص الجزيرة، لابد أن نذكر بالكثير من التقدير سعادة الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني، رئيس مجلس إدارة شبكة الجزيرة، وقد كان شيئا طيبا للغاية أن يتم تكريم الرجل الذي حمل شعلة الفكرة منذ نشوئها، وأبقاها طوال هذه السنين متقدة.. متحدة.. متمددة ومتجددة. لم تكن المهمة سهلة، ولم يكن الدرب سالكا بيسر وسهولة، لكن خبرة وشجاعة هذا الرجل وصبره وتواضعه وأدبه الجم، كل ذلك أسهم في تحقيق الفكرة النبيلة، فوصلت الجزيرة إلى ما وصلت إليه.. شبكة الجزيرة ليست مجرد قناة تليفزيونية، إنها أكبر وأعمق من ذلك بكثير، هي مشروع إعلامي تنموي توعوي، سوف يضعه التاريخ جنبا إلى جنب مع أهم وأبرز المشاريع النهضوية في وطننا العربي.
قدمت الجزيرة في الذكرى العشرين لانطلاقتها إطلالة جديدة وحلة ومحتوى على أعلى مستوى، وأحسب أن كلمة صاحب السمو الأمير الوالد هي الأكثر أهمية، وهي شهادة ووسام تستحقها القناة والعاملون فيها، إذ أكدت كلمة سموه ثبات المبادئ التي قامت عليها الجزيرة والانحياز للحقيقة والإنسان، والوقوف مع الشعوب العربية في تطلعها إلى الكرامة والحرية..
ننجح مرات ونخفق في أخرى، هذا ديدن عملنا وواقعنا، هضمناه وارتضيناه، فمهما كنت مجتهدا لابد من مساحة للخطأ، وهكذا الحال لوسائل الإعلام.. بين آمال وأحلام وأقلام وآلام!
رن هاتفي الجوال، وقطع حالة الاندماج، وإذا برقم شخص عزيز دائم الاتصال والسؤال عن الحال، وهذه المرة أضاف لها سؤالا عن الجزيرة، وماذا أتوقع لها في ذكرى العشرين عاما على تأسيسها..
سؤال مفاجئ لكن جوابه محيّر.
نعم ماذا ستقدم الجزيرة من جديد في عالم الإعلام المرئي والرقمي، وهي تتربع على قمته متفردة ومتسيدة..؟
وتذكرت حينها أن الصعوبة لا تكمن في الوصول إلى القمة ولكن في المحافظة عليها..
عندما تكون في مرحلة الصعود يكون الطريق أمامك للقفز والسير والركض، ولكن عند الوصول للهدف تضيق الخيارات، وتنحسر المسارات، وتتكرر الأفكار ويضعف الابتكار..
هذا هو الحال مع السواد الأعظم، لكن مع الجزيرة كان الوضع مختلفا واستثنائيا، فالإبداع نهر جارٍ، لا ينضب، يروي متابعيه بكل جديد، ويغذيهم بكل ما هو مفيد حتى بات التميز علامة مسجلة باسم القناة.
قبل فترة أتيحت لي الفرصة وتشرفت بلقاء حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى، بحضور رؤساء التحرير وبعض الإعلاميين، وكانت جلسة ودية تطرق فيها، حفظه الله، لعدد من الملفات الداخلية والخارجية، وأعطانا سموه من وقته الثمين رغم التزاماته الكثيرة، ودار الاجتماع بشكل مثالي، تحدث فيه سموه بكل شفافية، وأتاح للزملاء الوقت الكافي لطرح تساؤلاتهم، وأجاب عنها بوضوح، وخلصنا إلى نتيجة صحيحة ومريحة، وهي حرص سموه على دعم الإعلام وتسهيل حصوله على المعلومة، ليقوم بدوره الرقابي في رصد الإيجابيات والسلبيات، وفق المعايير المهنية والمصلحة الوطنية.
صاحب السمو الأمير الوالد قال، في الكلمة التي شرّف بها احتفال الجزيرة بالذكرى العشرين: «دولة قطر قررت منذ عقدين من الزمان تأسيس منبر إعلامي عربي، يتيح لشعوب المنطقة رؤية نفسها ورؤية العالم بعيونها، لا بعيون الآخرين، وينشر الحقيقة بين الناس، ويرفع مستوى الوعي بينهم.
وعندما أرتب هذه الأفكار وأضعها في سياق مترابط وإطار واحد، نخلص إلى أن صاحب السمو الأمير المفدى وصاحب السمو الأمير الوالد يشتركان في قناعة واحدة في ما يتعلق بالإعلام، وهي أن نهوض الدول والمجتمعات متصل بوجود إعلام مهني وموضوعي وصادق وذي صوت فاعل ومؤثر، يساهم في ترسيخ القيم الإيجابية، ويحارب الفساد والظلم.
من هذه الرؤية الثاقبة ولدت قناة الجزيرة في قطر، لتعلن ثورة إخبارية تليفزيونية غير مسبوقة في المنطقة، فكانت بمثابة بداية «الربيع الإعلامي» مما فاجأ زميلاتها الغارقة في الرسميات والتي قضت عمرها في «استقبل وودع» وأخبار ما يطلبه المسؤولون، لتقدم الجزيرة خطا تحريريا مختلفا حافلا بالجرأة وكافلا للمهنية ومتسما بالموضوعية، مما نفض الغبار عن كثير من المحطات، وحاولت التغيير من سياساتها وانتهاج طريقة الضيف الثقيل الذي قض مضاجعهم، وزاد من أرقهم، لكن أغلبها فشل في المجاراة وخسر قبل بداية المباراة، فظهرت تلك المحطات عاجزة متبلدة، كمنتجات مقلدة، فيما بقيت الوكالة الأصلية والعلامة الحقيقية حصريا وعصريا على شاشة الجزيرة.. الخطيرة.. المثيرة.
وإذا كان العرف السائد في الإعلام وغيره أن البناء يتم بالتدريج والنمو يحتاج لوقت ورعاية وعناية، إلا أنه حري بنا القول إن هذه القناة «ولدت بأسنانها» وظهرت أظافرها ومخالبها مع الساعات الأولى لبثها، فاختصرت المسافات واختزلت السنوات، وظهرت ناضجة قوية ومستعدة للتحديات والأزمات.
ورغم الظروف الصعبة التي ولدت فيها وتعقيدات المشهد السياسي وحساسياته في حينها، إلا إنها صمدت أمام كل الضغوط، ورفضت الخنوع والخضوع، وقدمت رسالتها للعالم العربي والعالمي، وقبل ذلك التضحيات الكبرى من فريقها الصحفي، والذي منهم من استشهد، ومنهم من قضى زمنا طويلا في غياهب السجن والاعتقال.. فكانت شاهدة حق، ولسان صدق، تقدم الرأي والرأي الآخر بلا حدود أو قيود، وشاهدة على العصر، وتبحث عن الخبر وما وراءه، سواء كان «في العمق» أو «تحت المجهر».. وتستمع لجميع وجهات النظر عبر البث المباشر أو «الاتجاه المعاكس»..!
الجزيرة «قناة الشعوب» تقف إلى جانبهم، وتدعم قضاياهم العادلة، فكانت بمثابة البعبع للأنظمة القمعية والمتسلطة، تكشف فظاعة أعمالهم، وتعري أفعالهم التي غابت عنها أبسط القواعد الأخلاقية والمبادئ الإنسانية، ونجحت بإيمانها الراسخ بدورها ومنهجها ورسالتها في تحقيق الكثير من الانتصارات والإنجازات، مدعومة بحب الناس والتفافهم حول شاشتها، بعد أن تأكدوا أنها أقرب لهم من تليفزيونات دولهم وحكوماتهم.
وهذا جعلها تتعرض للتضييق وحبس مراسليها والتشويش على تردداتها، كل ذلك في سبيل حجب الصوت والصورة عنها، لكتم أنفاسها، وقطع العلاقة بينها وبين مشاهديها، لكن في كل مرة تعود أقوى وأكثر تأثيرا وشعبية وجماهير، فهي تعمل بخط واضح وصريح، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح.
قاطعوها وحرضوا عليها، بل وصل الأمر إلى سحب سفراء، كما أفاد رئيس مجلس إدارتها الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني، الرجل الذي يعمل بصمت وهدوء وحكمة وحنكة، كان لها الدور الأبرز في ترجمة المشروع من فكرة إلى إنجاز بامتياز، ورغم كل ذلك.. استمرت الجزيرة في تحديها.. في تصديها.. في سيادتها.. في ريادتها.. إنها قناة الحقيقة والإنسان.
كانت الجزيرة الشاهد الذي رأى القتل وفضح القاتل، كانت الشاهد الذي رأى التدليس ففضح المدلسين، وكانت الشاهد الذي رأى عذابات الناس، فنقلت للعالم عذاباتهم وهمومهم. لم تكن «شاهد ما شفش حاجة» لم ير ولم يسمع، لقد رأت وسمعت ونقلت بكل أمانة ومهنية، فأثارت الغضب والحنق والأرق والقلق، وصار رأسها هو المطلوب، وليس رؤوس القتلة والفاسدين والمتاجرين بقضايا الأوطان وهموم الناس.
كانت الأمور تمضي على ما يرام، وكانت الجرائم تقيد ضد مجهول، لكن الجزيرة أعادت فتح القضايا، وحملت صيحات المظلومين وآهات ضحايا العنف والاضطهاد، وسلطت عليها الأضواء..
عام 1996 انطلق بث قناة الجزيرة من «علبة كبريت» كما وصفها أحد الشخصيات الكبيرة المعروفة، والذي كان في زيارة للدوحة، مستغربا من صغر حجمها وضخامة عملها، لتصبح لاحقا من أغلى العلامات التجارية.. الأفكار العظيمة تطلقها عقول عظيمة، قادرة على استشراف المستقبل، والتأثير في مجرياته، وتقديم المبادرات الكبيرة التي تترك أثرا عظيما فيه، ليس المهم أين يمكن للمرء أن يطلق فكرته، المهم أن تكون هذه الفكرة جديدة وفريدة ومفيدة.. هكذا كان الأمر مع رواد المبتكرات الهامة عبر التاريخ، وخلال العقود الماضية تمكن هؤلاء الرواد من جعل حياتنا مختلفة كليا بفضل تكنولوجيا جديدة صنعتها الأحلام والأفكار، ليصبح ذلك جزءا هاما ورئيسيا من حياتنا.. الجزيرة واحدة من تلك الأفكار العظيمة، انطلقت لمواجهة منظومة إعلامية غربية هائلة ومحترفة وجيش ضخم من وسائل وأدوات ناطقة باللغة العربية أو اللغات المحلية للمناطق المستهدفة، لغزو العقول والقلوب، إذ أن جوهر الأهداف الاستراتيجية للحروب النفسية، هو تدمير المعنويات وترويج الدعاية السوداء وتضليل الرأي العام والسعي الجاد لتطبيع الهزيمة وغرسها في نفوس الأجيال. يقول ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العالمية الثانية «إن الأكذوبة تقوم بدورة كاملة حول العالم قبل أن تنتهي الحقيقة من ارتداء ثيابها». لقد صورت وسائل الإعلام الأميركية قضية الصراع العربي الإسرائيلي على أن الإسرائيليين هم ضحايا ومحبون للسلام، وعملت على تنميط صورة المسلمين والعرب بإطار إرهابي، كما عملت مراكز الإعلام الموجهة على تعبئة الذاكرة الغربية بأنماط مشوهة، ولم ينضج حتى الآن جيل سياسي وبحثي وإعلامي غربي، خارج إطار هذه الصورة المعكوسة، لذلك كانت الجزيرة الانجليزية، التي ساهمت في تغيير الصورة النمطية المضللة وقدمت رؤية مختلفة، موضوعية وشفافة، وصارت، كما وصفها صاحب السمو الأمير الوالد، منافسا قويا، وصوتا ذا مصداقية وحضور، وحررت الرأي العام العالمي من الاحتكار الإعلامي، وديكتاتورية الصوت الواحد، ومكنت شعوب العالم من سماع أكثر من صوت، والانفتاح على أكثر من رأي.
عندما نتحدث عن الأفكار والرؤى العظيمة، لابد من الحديث أيضا عن تطبيق هذه الأفكار، وعندما نتحدث عن التطبيق، فيما يخص الجزيرة، لابد أن نذكر بالكثير من التقدير سعادة الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني، رئيس مجلس إدارة شبكة الجزيرة، وقد كان شيئا طيبا للغاية أن يتم تكريم الرجل الذي حمل شعلة الفكرة منذ نشوئها، وأبقاها طوال هذه السنين متقدة.. متحدة.. متمددة ومتجددة. لم تكن المهمة سهلة، ولم يكن الدرب سالكا بيسر وسهولة، لكن خبرة وشجاعة هذا الرجل وصبره وتواضعه وأدبه الجم، كل ذلك أسهم في تحقيق الفكرة النبيلة، فوصلت الجزيرة إلى ما وصلت إليه.. شبكة الجزيرة ليست مجرد قناة تليفزيونية، إنها أكبر وأعمق من ذلك بكثير، هي مشروع إعلامي تنموي توعوي، سوف يضعه التاريخ جنبا إلى جنب مع أهم وأبرز المشاريع النهضوية في وطننا العربي.
قدمت الجزيرة في الذكرى العشرين لانطلاقتها إطلالة جديدة وحلة ومحتوى على أعلى مستوى، وأحسب أن كلمة صاحب السمو الأمير الوالد هي الأكثر أهمية، وهي شهادة ووسام تستحقها القناة والعاملون فيها، إذ أكدت كلمة سموه ثبات المبادئ التي قامت عليها الجزيرة والانحياز للحقيقة والإنسان، والوقوف مع الشعوب العربية في تطلعها إلى الكرامة والحرية..