-((صاحبُنا إيلوار قد يُفَضِّلُ الإعدامَ شنقا على أن يتسبَّبَ هو في إعدامِ قَلبِ امرأةٍ يعشقها تسمى غالا..))
صباح الحَرف.. مساء الحَرْف..
للرسائل فَوَحَان وُرودٍ نَدِية، وللحديث عن عشاق الرسائل وهيامهم بقية..
لكن مهلا، هل كتابة الرسائل وتَلَقّيها هما ما أضفى على عشاق الرسائل ذاك الوهج وتلك الإطلالة؟!
أم أن العشق الممدد على أوراق الرسائل هو ما ردَّ الروح إلى قلوب تسلل إليها الصدأ من فرط الحرمان ووطأة الأشواق؟!
مازال قاربنا يستريح عند مرفإ الفرنسي إيلوار والروسية غالا.
ولْنستأنفْ اليوم الإبحارَ لنقول المزيد في عشق سوريالي يذكرنا بقطب الرحى في الاتجاه السوريالي حينذاك، طبعا نتحدث عن الشقي إيلوار، والحُبّ يجعل منك شقيا بحقّ.
فهل كان صاحبنا إيلوار شقيا فقط عند تبادل الحُبّ حروفا مع عزيزته غالا؟!
يقينا لا كما ستعرفون، لأن الكائنَ الشقي في إيلوار ينفجر بركانُه عند تهديده بالخلاص من حبل الحياة الذي كاد يخنقه، ذلك الخلاص الذي كانت تدفعه إليه قصصُ انتحار العشاق.
ولهذا يقول في رسالة تَطِيرُ إلى غالا:
«هل تعلمين أن ماياكوفسكي انتحر؟ قيل إنه انتحر حزنا على حُبّ ضائع، وتزوجت تلك المرأة التي أَحَبَّها بدبلوماسي بولوني. ولم يُشِرْ في الرسالة التي تركها إلى هذا، وكان قال قبل أن ينتحر للمرأة التي هي أخت ألسا: «ليلي، أَحِبِّيني». تعرفين بكيتُ عندما قرأتُ هذا» (رسائل إلى غالا).
حقيقة ما أرقّه من رَجُلٍ هذا الإيلوار الذي تَدمعُ له عيونُ القلب في زمننا هذا الذي من النادر أن تجدَ فيه قلبا ينبض بحرارة وصدق!
هل تُدْرِكون ما معنى أن يبكي رَجُل؟!
هل تفْقهون ما معنى أن يُهَدِّدَ رَجُل بالموت من أجل امرأة؟!
يا له من زمن جميل زمن إيلوار الذي كان فيه الحبيبُ يفدي حبيبتَه بعمره!
ألا ترونه يقول:
«إذا كان لنا أن نشيخ فلن نشيخ منفصلين» (رسائل إلى غالا)؟!
أما اليوم، فما أكثر الجبناء، جبناء الحُبّ، أنصاف الرجال وأشباه الرجال الذين تضحي المرأةُ من أجل الواحد منهم بالغالي والنفيس، بينما الواحدُ منهم بمجرد أن يفكر في التضحية تَجِده يضحي بالمرأة!
إيلوار يعلِّمُ الرجالَ درسا في الحُبّ.. اِسْمَعْ وانْتَبِهْ أنتَ، أنتَ يا رَجُل الساعة، يا مَنْ لا تتقن شيئا سوى التجريح والإساءة وكَسْرِ جناحيْ عصفورٍ رقيق يسمى المرأة.
إنها المرأة نفسها (غالا) التي كانت تقابل حُبَّه (ايلوار) بحُبّ معادِل لا يفقه حقيقة أسراره سوى مَن اكتوى بناره، لذلك تهمس إليه غالا في رسالة:
«سأفعل كل ما يرضيك، سأشتري رضاك بأي ثمن» (رسائل إلى غالا).
تأملوا بربكم كيف كانت أصابع إيلوار تذوب بقدر ما يذوب قلبُه ليكتب إلى معبودته غالا رسالةً، رسالة توسُّل وعبادة.. أما أنتَ يا رَجُل اليوم، فحتى عندما تكتبُ رسالة تكتبها لتجرح المرأة، لتصحح خطأ بخطإ أكبر..
الأَولى يا أنتَ يا مَن انحرفتَ عن طريقة إيلوار في الحُبّ أن تبادر (وأنتَ تكتب إليها رسالة) بإيقاف نزف جرحها، فلا يعقل لا يعقل أن تداوي الجرحَ بجرح أكبر وأعمق من الأول، ببساطة لأنك صغير على الحُبّ، وصغير على أن يركع لك قلبُ امرأةٍ كما يركع لها قلبُه (إيلوار).
هل كان صاحبنا إيلوار يقوى على أن تُطاوعه نَفْسُه الأَمَّارة بالحُبّ ليجرحَ أنثاه غالا، غالا التي لا يعرفها أحد كما يعرفها إيلوار؟!
يقول في قصيدة:
«لن يعرفني أحد
كما تعرفينني..
لن يعرفكِ أحد
كما أعرفك» ( قصيدة: لن يعرفني أحد لإيلوار).
هل كان إيلوار يَجِدُ اليدَ أو اللسانَ ليتطاول على معبودة قلبه؟!
كيف يفعلها إيلوار وهو يصرخ في رسالة صرخةَ طفلٍ لا يعرف سوى البكاء خشيةَ فقدان الشيء قبل فقدانه بحقّ:
«أنا لا أكون شيئا إلا معك» (رسائل إلى غالا).
هل يُصَوِّرُ لك عقلُك يا عزيزي أن إيلوار قد يفعلها ويضرب امرأته بغير قُبْلَة وعينُه بطيفِها حُبْلى؟!
المرأةُ لا تُضْرَبُ إلا بقُبْلَة، أو بوردةٍ لكن شريطة الرفق كما ذهب إلى ذلك زميلنا عاشق فاكهة الأبجدية محمد قائلا: «أما بالنسبة للمرأة: فلا بأس من ضربها بالوردة، ولكن.. برفق ومحبة. وتعلَّم ْكيف تجعل الوردةَ تتعطر بها وتشمّ أنوثتَها!» (محمد الرطيان، مقال: لا تَرمِ الناس.. واضربْها بوردة!).
هل يختلف اثنان في أن إيلوار كان أَحَنّ رَجُل على أنثاه:
«إذا ما وجدتِ نفسكِ ذات يوم حزينة ووحيدة وجدتني إلى جانبك» (رسائل إلى غالا)؟!
ولأن حنانَه تفجر ينبوعا يُغْرِقُ مساحةَ قلبه، فإنه ما فتئ في غياب غالاه يهيم كمجنون تأكله الذكرى ولا يدري ما يفعل بقلبه المسكون بامرأة لن تتكرر في نسخة أخرى:
«ماذا أفعل بكل هذه الذكريات التي تحيط بي في كل شارع وكل زاوية. ماذا أفعل بأثوابك؟» (رسائل إلى غالا).
غالا.. غالا.. غالا.. يقولها إيلوار ويرددها، كيف لا يهذي بها وهي بالنسبة له الوجع والأنين بقدر ما هي له حبّة الأسبرين. عندما تَمرض غالا يَمرض إيلوار، فهي توءم الروح، والروحُ تعانق الروحَ. وعندما يَمرض إيلوار، فإن رسالة واحدة مطبطبة عليه من يد غالا تشفيه:
«كنت مريضا عندما وصلتني رسالتك. وها أنا انهض من فراشي وسأخرج، تعلمين أنني أؤمن بك، أؤمن بك، لا شيء ضاع، رسالتك شفتني» (رسائل إلى غالا).
ألا يا رجال حَدِّثُوا عن زمن إيلوار.. أما زمننا، فالمرأة فيه جميلة ولطيفة ووديعة وفاتنة وما شئتَ، لكنها بمجرد أن تئنّ وتشتكي ضعفَها وتتوجع، تَجد الرجُلَ أول الفارّين وكأنها عبء لا يطيقه..
ياااااااه! كم أنتِ غالية يا غالا!
إيلوار يَحمل معبودتَه غالا بين كَفَّيْ قلبِه، يفترشُ لها سريرَ عينيه، ويغطيها بأهدابهما:
«ليس لي سوى رغبة وحيدة: أن أراك» (رسائل إلى غالا).
أَيْنَكنَّ يا نساء؟! انظرن كيف يعامِل عاشق حبيبتَه، ألستنّ تغبطنها؟!
هو يتوسلها أن تظل قريبة منه، يهدد باختفائه من الحياة إن هي شمسُه غالا غابت عن سمائه، فما بالكنّ أن تهدد هي باختفائها!
هل تصورتنّ ما وَقْع أن تقول له هي إنها ستختفي من حياته؟!
كيف لكنّ أن تتوقعن ذلك وهو في حضرتها (بين يدي رسائلها) يدلي باعترافاته الصارخة بصوت الحُبّ كما لم يعترف رجُل نال ما نال بين مطرقة البعد وسندان الشوق:
»لماذا لا أفهم إلا لغتكِ؟ لماذا أترك لك حريتكِ؟ أيّ فرح أستمد من فرحكِ؟ لماذا أحبكِ قوية جريئة ولا أعمل إلا مشيئتكِ، التي هي مشيئتك، التي يالجمالها، ترعرعتْ، كمشيئتي، من حبنا كله» (رسائل إل غالا)؟
هل توقعتنّ ما يمكن أن يفعل به مجرد تفكيرها في الاختفاء وهي له بمثابة حبّات الهواء؟!
هل يجرؤ إيلوار على أن يقول لها: «اِخْتَفي»؟!
عزيزي يا عزيزي، لن تتصوَّرَ بأي شكل من الأشكال ما وَقْع كلمة «اِخْتَفِي» على امرأة عاشقة، امرأة عاشقة تُفَضِّل أن تُلقي بنفسها من الطابق السابع على أن تذبحَها كلمة «اِخْتفي»..
«اِختفي» كلمة واحدة تقتلها في الحين إن قِيلتْ، تقتلها بإحساس الحسرة الذي تزرعه فيها الكلمةُ لتقتنع أخيرا بأنها لا تساوي شيئا في عينيْ مَن تُحبُّ وتهوى.
ألم أقلْ لكنّ يا نساء إن أجمل خطابات العشق لم تُكْتَبْ لَكُنّ بعد؟!
صاحبُنا إيلوار قد يُفَضِّلُ الإعدامَ شنقا على أن يتسبَّبَ هو في إعدامِ قلبِ امرأةٍ يعشقها تسمى غالا..
هل هكذا بهذه الحكمة والبلاغة، بلاغة الحُبّ، يتصرَّف عُشّاقُ الغرب؟!
أم أن التضحية بالحبيبة توجد فقط عندنا نحن؟!
يا للمفارَقة! عند الغَرْبِ كلُّ شيء ثمين ومُقَدَّس.. بينما عندنا نحن الــ(..) كُلُّ شيء رخيص و(..) حتى العاطفة!
لكنها عيون الحُبّ، تلك العيون ترى ما لا يراه الآخرون:
«الحُبُّ ليس أعمى، كما يقولون..
الحُبُّ هو الذي يمنحك العيون!» (محمد الرطيان، مقال: فاكهة الأبجدية [03 نونبر 2016]).
الحُبّ!
الحُبّ يحرك الرَّجُلَ لتجري رياحُه بما تشتهي سُفُنُكِ أنتِ.. الحُبّ يجعل من الرجُل بِطوله وعرضه عصفورا، عصفورا رقيقا ينتفض بين يديك مُسِرّاً إليكِ بلحن الحُبّ، بصوت الحُبّ، بذَبْحَة الحُبّ التي ينالها على يديك..
الحُبّ يُلَوِّنُ لوحةَ العالَم (التي تُؤَثِّثِينَ فضاءَها) بريشةِ عاشقٍ يَكونُه قلبُ رَجُلِكِ.. وهكذا كان قلبُ إيلوار لسيدته غالا..
أليس هو إيلوار مَن قال لأنثاه غالا:
«بدونك لا أعود أرى زجاجاتي الملونة، ولا حبات الزمرد والنهار والحُبّ» (رسائل إلى غالا)؟!
تلك هي غالا التي جعلَتْهُ (إيلوار) يُبْحِرُ في حُبِّها بلا سفينة، ويجدف بلا مجداف، ويغوص إلى القاع وهو لا يُتْقِن سوى الغرق، فكلما هوى إلى القرارة صاح في وجه مولاته: «زِيديني».
إيلوار يُدْفَعُ دفعا بقوة عاشق إلى البوح لزمردته الثمينة غالا بأنها نوافذ الروح عيناه، بأنها القلب والإحساس، بأنها الصوت والأنفاس، بأنها كل شيء في حياته، وكل شيء في حياته يتعطل في غيابها، بما في ذلك حياته:
«لا توجد حياة، يوجد الحب فقط» (رسائل إلى غالا).
بأمر الحُبّ يركع ايلوار وتدمع عيناه وقلبه كلما نأت المسافات بمَن يهواها. بأمر الحُبّ يُبَحُّ صوتُ قلم ايلوار الذي يكاد حبرُه يلفح ورقَ الرسالة تلو الرسالة انصهارا وذوبانا كقلب سيد القَلَم (ايلوار)..
قلم ايلوار يُبَحُّ صوتُه نداءً للحُبّ وتغنيا بالحُبّ وشكوى من الحُبّ الذي لا تطيب له حياة اللاحُبّ.. الحُبّ! هلاّ سألتم عنه حكيما من العارفين بالحُبّ:
«الحب، ليس عاطفة، فقط، إنه ثقافة.. والثقافة- في النهاية- سلوك.. الحب.. درجات..
لأن تُحِبّ تلك درجة.. ولأن تُحَبّ تلك درجة، ولأن تُحِبّ وتُحَبّ، تلك درجة متقدمة.. لكن أعظم درجات الحُبّ، أن تكون مثل الوردة، تلك التي تتضوع للبـســتاني، ولعابر الطريق، وللحطّاب، دون أن تمد يدا من أريج لتطلـب المقابل من ذلك العطاء... والحُبّ» (هاشم كرار، مقال: الحرب.. نقيض الحُبّ).
المجد للسّلّ الذي وفّق بين قلبين!
المجد للسلّ إن كان السّلّ يقدّم لنا شهادةَ ميلادِ عشقٍ سَقْسَقَ عصفورُه على سرير المستشفى التي كان إيلوار وغالا يحلاّن بها ضيفين على امتداد رحلة علاجهما من المرض الذي ألمَّ بهما!
وبعد توهج العشق لم يَسَع العاشقين إلا الاحتراق والهذيان بالحُبّ في الحلم واليقظة، ظَلاَّ على تلك الحال إلى أن حالت بينهما الأهوال، أهوال حرب الظروف التي كان تشتتهما، فلا يكون منهما إلا الاغتسال في نهر التمني عَلَّه يحييهما بلقاء يُزَوِّدُ رئةَ الحُبّ (المعلَّق بين الأرض والسماء) بما يكفي مِن هواء..
في هذا وذاك تُمني غالا نفسَها في رسالة بموعد يُعيد لسيقان الوردِ الأملَ في الربيع قبل أن تذبل أوراق الورد:
«أزداد يأسا من لقائنا ثانية. الأيام لا تنتهي. ولست قوية ولا صبورة. لكن إذا انتهت الحرب والتقينا فسنعيش كملكين» (رسائل إلى غالا).
إنها محاولة على طريقة غالا للتنفيس عن وجع المسافات التي تحرق أنفاسَ الصبر..
أن تكون عاشقا؟! صَدِّقْ أنك تَكون كُلَّ شيء.
لنا عودة بعد أسبوع بإذن الله، فكونوا على موعد. طابت قراءتكم.

بقلم: د. سعاد درير