أنتم تسجدون لجيّد القرآن، وأنا أسجدُ لجيّد الشّعر!
القائلُ هو الفرزدق، وأما المناسبة- والكلام على عهدة الرّواة- أنه مرّ على مسجدٍ لبني زُريقٍ في البصرة، فإذا فيه منشدٌ يُنشد أبياتاً من معلقة لبيد بن ربيعة، ولما وصل إلى قول لبيد:
وجلا السّيول عن الطلول كأنّها
زُبَراً تجدُّ متونها أقلامها
خرّ الفرزدقُ ساجداً، فتعجّب النّاسُ، ولما رفع رأسه سألوه: ما هذا يا أبا فراس؟
فقال: أنتم تسجدون لجيّد القرآن، وأنا أسجدُ لجيّد الشّعر.
والشيءُ بالشيء يُذكر، فإنّ لبيد هو الوحيد الذي أسلم من أصحاب المعلقات، فقد أدرك الإسلام منهم اثنان، لبيد والأعشى، فأما لبيد فأسلم، وأما الأعشى فكاد! حيث نظم قصيدة مديح في النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم نكص على عقبيه، فلم يقل القصيدة، ولا الشهادتين! وأما الفرزدق فهو أحد أضلاع الثالوث الأمويّ الشهير، عريق النّسب من تميم، وهو حفيد صعصعة بن ناجية الذي كان يفتدي البنات من الوأد في الجاهلية، فيدفع لمن أراد وأد ابنته مالاً ليبقيها! والقارئ في شعر الفرزدق لا يلبث طويلاً أن يكتشف أنّ جده الجاهليّ كان أرفعُ خُلقاً منه! فقد كان هجّاءً فاحشاً سليطاً، وله مع جرير نصف قرن من الهجاء المتبادل انتهتْ بموته، فرثاه جرير، فقد كانا صديقين في الحياة عدوّين في الشّعر!
وبالعودة إلى القول، أزعمُ غير مرتاب، وأُقسم غير حانث، أنّ البعض فُتنوا في الأدب فتنة بقية النّاس في المال والولد! وإن كان العربُ في جاهليتهم وإسلامهم إلى اليوم يعشقون عذب القول، ويطربون لجميل العبارة، فإنّ الإعجاب شيء والفتنة شيء آخر! فالإعجاب سياقه كيوم دافع الزّبرقان بن عديّ عن نفسه أمام النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأُعجب سيّد النّاس ببلاغته، وقال قولته الشّهيرة: إنّ من البيان لسحراً! وكإعجاب عمر رضي الله عنه بشعر زهير بن أبي سلمى، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بشعر عمر بن أبي ربيعة، أما الفتنة فهي شأن الفرزدق مع شعر لبيد!
ومما قرأتُ وسمعتُ وشاهدتُ أقول إنّ البعض وإن كانت لا تسجدُ جباههم للأدب فإنّ قلوبهم تفعل! يُحدّثك أحدهم عن شِعر درويش كأنما القصائد أُمليت عليه من فوق السّبع الطّباق، ويقرأ عليك أحدهم قصيدة مطر للسّياب كأنما يقرأ عليك سورة الرحمن، ويُدافع أحدهم عن نثر ديستوفسكي كأنه يدافع عن نثر النبي في خطبة حجة الوداع، ويُنافح أحدهم عن شعر التفعيلة كأنّ العرب لم يقولوا شِعراً قبل نازك الملائكة!
لستُ ضدّ الأدب بالطّبع، فأنا أقرؤه بشغف وأكتبه بنهم، وأستعذبُ الجميل منه وأنتقدُ الرّديء، وإني في هذا وذاك أؤمن أنّ الأدب فنّ من فنون القول، يتفاوتُ النّاس فيه، ويعجبني من يطربُ لكلمة جميلة، ويُفرحني من يهديني اقتباساً حلواً، ولكني أُشفقُ على المفتونين والمفتونات بالأدب، الذين ينظرون إليه بعين القداسة ولأصحابه بعين العِصمة، ترى من يحب نزار قباني يريد أن يقنعك أنّ كل ما كتبه نزار جميل، ويستميتُ في الدّفاع عن قصيدة مهما كانت تافهة، وقد ناقشتُ شخصاً يرى أن قول نزار:
فصّلتُ من جلود النساء عباءةً
أحد أبلغ ما قالته العرب اليوم، وأن نزار لو تقدّم لكان من أصحاب المعلقات على جدار الكعبة، باعتبار هذا أحد الأقوال في سبب تسميتها!
أُشفقُ على من يتّخذ شاعراً يتعامل مع شعره تعامل المريد مع شيخه، ومن يتّخذ ناثراً يتعامل مع نثره كأنه ابن حجر العسقلاني في صحيح البخاري!
عاديّ جداً أن يستعذب المرء شاعراً ويذر آخر، وأن يطرب للون أدبي ويستقبح آخر، وله أن يرى أدونيس أهمّ من المتنبي، وأحلام أهم من الخنساء، ولكني شخصياً أنزعج عندما أرى من يرى البيّاتي بالعين التي أرى فيها عمر بن الخطاب، ومن يرى غادة السّمان بالعين التي أرى فيها عائشة!
بقلم : أدهم شرقاوي
القائلُ هو الفرزدق، وأما المناسبة- والكلام على عهدة الرّواة- أنه مرّ على مسجدٍ لبني زُريقٍ في البصرة، فإذا فيه منشدٌ يُنشد أبياتاً من معلقة لبيد بن ربيعة، ولما وصل إلى قول لبيد:
وجلا السّيول عن الطلول كأنّها
زُبَراً تجدُّ متونها أقلامها
خرّ الفرزدقُ ساجداً، فتعجّب النّاسُ، ولما رفع رأسه سألوه: ما هذا يا أبا فراس؟
فقال: أنتم تسجدون لجيّد القرآن، وأنا أسجدُ لجيّد الشّعر.
والشيءُ بالشيء يُذكر، فإنّ لبيد هو الوحيد الذي أسلم من أصحاب المعلقات، فقد أدرك الإسلام منهم اثنان، لبيد والأعشى، فأما لبيد فأسلم، وأما الأعشى فكاد! حيث نظم قصيدة مديح في النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم نكص على عقبيه، فلم يقل القصيدة، ولا الشهادتين! وأما الفرزدق فهو أحد أضلاع الثالوث الأمويّ الشهير، عريق النّسب من تميم، وهو حفيد صعصعة بن ناجية الذي كان يفتدي البنات من الوأد في الجاهلية، فيدفع لمن أراد وأد ابنته مالاً ليبقيها! والقارئ في شعر الفرزدق لا يلبث طويلاً أن يكتشف أنّ جده الجاهليّ كان أرفعُ خُلقاً منه! فقد كان هجّاءً فاحشاً سليطاً، وله مع جرير نصف قرن من الهجاء المتبادل انتهتْ بموته، فرثاه جرير، فقد كانا صديقين في الحياة عدوّين في الشّعر!
وبالعودة إلى القول، أزعمُ غير مرتاب، وأُقسم غير حانث، أنّ البعض فُتنوا في الأدب فتنة بقية النّاس في المال والولد! وإن كان العربُ في جاهليتهم وإسلامهم إلى اليوم يعشقون عذب القول، ويطربون لجميل العبارة، فإنّ الإعجاب شيء والفتنة شيء آخر! فالإعجاب سياقه كيوم دافع الزّبرقان بن عديّ عن نفسه أمام النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأُعجب سيّد النّاس ببلاغته، وقال قولته الشّهيرة: إنّ من البيان لسحراً! وكإعجاب عمر رضي الله عنه بشعر زهير بن أبي سلمى، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بشعر عمر بن أبي ربيعة، أما الفتنة فهي شأن الفرزدق مع شعر لبيد!
ومما قرأتُ وسمعتُ وشاهدتُ أقول إنّ البعض وإن كانت لا تسجدُ جباههم للأدب فإنّ قلوبهم تفعل! يُحدّثك أحدهم عن شِعر درويش كأنما القصائد أُمليت عليه من فوق السّبع الطّباق، ويقرأ عليك أحدهم قصيدة مطر للسّياب كأنما يقرأ عليك سورة الرحمن، ويُدافع أحدهم عن نثر ديستوفسكي كأنه يدافع عن نثر النبي في خطبة حجة الوداع، ويُنافح أحدهم عن شعر التفعيلة كأنّ العرب لم يقولوا شِعراً قبل نازك الملائكة!
لستُ ضدّ الأدب بالطّبع، فأنا أقرؤه بشغف وأكتبه بنهم، وأستعذبُ الجميل منه وأنتقدُ الرّديء، وإني في هذا وذاك أؤمن أنّ الأدب فنّ من فنون القول، يتفاوتُ النّاس فيه، ويعجبني من يطربُ لكلمة جميلة، ويُفرحني من يهديني اقتباساً حلواً، ولكني أُشفقُ على المفتونين والمفتونات بالأدب، الذين ينظرون إليه بعين القداسة ولأصحابه بعين العِصمة، ترى من يحب نزار قباني يريد أن يقنعك أنّ كل ما كتبه نزار جميل، ويستميتُ في الدّفاع عن قصيدة مهما كانت تافهة، وقد ناقشتُ شخصاً يرى أن قول نزار:
فصّلتُ من جلود النساء عباءةً
أحد أبلغ ما قالته العرب اليوم، وأن نزار لو تقدّم لكان من أصحاب المعلقات على جدار الكعبة، باعتبار هذا أحد الأقوال في سبب تسميتها!
أُشفقُ على من يتّخذ شاعراً يتعامل مع شعره تعامل المريد مع شيخه، ومن يتّخذ ناثراً يتعامل مع نثره كأنه ابن حجر العسقلاني في صحيح البخاري!
عاديّ جداً أن يستعذب المرء شاعراً ويذر آخر، وأن يطرب للون أدبي ويستقبح آخر، وله أن يرى أدونيس أهمّ من المتنبي، وأحلام أهم من الخنساء، ولكني شخصياً أنزعج عندما أرى من يرى البيّاتي بالعين التي أرى فيها عمر بن الخطاب، ومن يرى غادة السّمان بالعين التي أرى فيها عائشة!
بقلم : أدهم شرقاوي