+ A
A -
يا لَصَباح الثلاثاء! تَشعر بالبرد يُحدِث ثقوبا بيديك كأنه إبرة، الإبرة نفسها التي أضرب بها مثلي الخاص في الصداقة كلما ذكَّرتُهم بفلسفتي: الصداقةُ إِبْرَة ضائعة بين رُكَامِ قَشِّ، الطريق إليها طويل، وقد يكون مِنَ المستحيل، ومن حَالَفَهُ الحَظُّ للقائها قد تُسْعِفُه لِيَخِيطَ بها لَيْلَ انتظاره، وقد تَخِزُه.
أَسْعَدُ كلما وَجَدْتُني أَحْصد ما زَرَعْتُه في أذهانهم وهُم يَردّون لي بضاعتي في نقاشاتنا المفتوحة. دَرْس آخر يُضيفونه إلى رصيدهم من الْمُحَصَّل، وكان الفيلسوف فريدريك نيتشه فاكهةَ الكلام، بل شكَّلَ الكعكةَ التي وضعناها على طاولة النقاش، فاقتطع كُلّ منهم جزءا: «لستُ حزينا لأنك كذبْتَ عليَّ، لكنني حزين لأنني لن أُصَدِّقَك بعد الآن».
بيتُ القصيد أن الكذبَ جريمة، جريمة في حقّ نفسك، وفي حق الآخر الذي تكذب عليه، من باب التملُّق والتسلُّق، من باب التحريف والتزييف، من باب التلفيق والتفريق.. أن تَكْذبَ عليَّ معناه خيانتك لثِقَتِي بك. المبدأ أن أُصَدِّقَك إلى أن يَثبتَ العكسُ، فإن ثبتَ العكسُ تَأَكَّدْ أنني سَأُسْقِطُكَ من حساباتي.
تَسامُحي أَوْسَع من صَدْرِ البحر، لكن تَأَكَّدْ أن لِتَسامُحي سَقْفاً لا يمكن تَجاوُزه. حين تَبلغ أنتَ سقفَ التسامح عندي سَأُهْمِلُك، سَتُصْبِح في عينيّ مجرد رقمٍ من الأرقام النَّكِرَةِ التي تملأ الدنيا كما هي الأرقام التي يَحْمِلُها السُّجَناء الطُّلَقَاء في سجن الدنيا الذي يَضِيقُ بِمَنْ فيه.
بِطَبْعِي لَنْ أَقِفَ عند خيبةِ فُقدانك، سَأُلْقِي بك في أقرب حاويةِ أزبالٍ كما لو كُنتَ منديلا ورقيا لَطَّخَهُ دَمُ كذبةٍ، فَقَرِفْتُ منه، وكان من الطبيعي أن أَضَعَهُ في مكانه الطبيعي.
مِحْنَتِي أنني من الصعب أن أَتَأَقْلَمَ مع التغيير، ولا أُطيقه. ربما أَكْتَئِبُ لأن قطعةَ ديكور تُؤَثِّثُ مساحةً في البيت يَتِمُّ الاستغناء عنها أو تغيير مكانها أو تعويضها بأخرى أكثر جِدَّة وأناقة.. ربما أَحْزَنُ بشكل مَرَضي لأن صباغةَ أبوابِ البيت تَمَّ تغييرها.. أَجِدُ معاناة في التَّكَيُّف مع التغيير.. منذ سنواتٍ كِدْتُ أبكي (بل والله بكيتُ خِفْيَةً) يوم تَقَرَّرَ تغييرُ غرفة نومي، كيف أُقْنِعُهم بأن غرفتي تجمعني بها علاقة خاصة، علاقة عِشق تجمعني بالجدران، بالسرير، بنقوش الجبس، بالستارة، بالوسادة..
التغييرُ الوحيد الذي أُقْبِلُ عليه صَدّاً لِلأَفَّاكِين هو تغيير أرقام الهاتف وعناوين البريد الالكترونية. منذ وقت قصير سألني أخي إن كُنتُ توصَّلْتُ بصور ابنته على الواتس، وَجَدَ عددا من الأرقام باسمي لا يعرف أيّها مازلتُ أَستعمله.. هل سَيُصَدِّق أنني جدَّدْتُ رقمَ الهاتف المحمول لا أدري هل للمرة الثلاثين أم أكثر؟! وإلى حدود كتابةِ هذا المقال لا أحد يعرف رقمي الحالي سوى شخص واحد.
مُدَوَّناتي الالكترونية أُغْلِقُ فيها نافذةَ المراسلة والتعليق.. عناوين بريدي الالكتروني ما أكثرها حتى أني نَسيتُ كلماتِ مُرور معظمِها لأني لم أعد أفتحها.. هل هي الرغبة في الإنصات إلى الذات؟! لا أدري. لكنه تغيير مقدور عليه. أما أن أُغَيِّرَ أشخاصا ومساحاتٍ فهذا ما لا طاقةَ لي عليه، لذلك أَغْلَقْتُ نوافذي وقاطعْتُ زمني إلا في ما ندر.
نَافِذَةُ الرُّوح:
«إِذَا قَالَتْ: تَجَاهَلْنِي،
فَمَعْنَى قَوْلِهَا ضِدُّ/
أُرَاضِيهَا وَأَشْتَاقُ
لِلُقْيَاهَا، وَلاَ أَغْدُو/
أَنَا الْمَجْنُونُ يَا يُمْنَى،
أَذِيبِينِي، لِمَ الصَّدُّ؟!/
إِذَا شِئْتِ أَمِيتِينِي،
فَفِي سِكِّينِكِ الشَّهْدُ/
أَذِلِّينِي، أَذِلِّينِي،
أَلاَ إِنِّي لَكِ عَبْدُ/».
د. سعاد دَرير
copy short url   نسخ
10/11/2016
2198