لقاء المثقفين من متع الحياة والتجارب الشخصية، خاصة حين يكون الحوار في موضوع قد تعتّق، وقضيته تطلع على سطح الفكر الإسلامي بقوة، وبالذات في هذا العهد الصعب لأمم الشرق، اللقاء كان مع الأخ والصديق العزيز الشيخ فيصل بن جاسم آل ثاني، في زيارته الأخيرة لإسطنبول، ولعل إصراره على عدم المشاركة في المسرح الثقافي العربي، باستثناء تويتر، والذي اختلفتُ معه فيه، غيّب آراءه المهمة وعصارة بحثه في قضايا الفكر الإسلامي وتحديداً، شراكة الوعي السلفي بعد تحرير أصوله ومجدديه.
من ما سمّاه أبو عبد الله، اللحظة الراهنة لأي انعطاف سلفي عاش أزمة مجتمع وظرف وقتي وصراع سياسي أو مذهبي، فلا يجوز أن يظل الانعطاف الوقتي، قاعدة تأصيل للفكر السلفي، الذي نتفق وإياه فيه، على أن الإمام ابن تيمية هو رائده الكبير، وأنه كما قال الباحث المتخصص فيه د. محمد السيد الجليند، أن ابن تيمية ظُلم من محبيه قبل كارهيه، في إشارة إلى نسبة بعض قضايا الغلو والتشدد التي أحدثها بعضهم، ولم يكن يؤمن بها فضلاً عن أن يقول بها.
كما أن الوحشة التي صُبت في رأيي، على عددٍ من أئمة الإسلام، كالإمام محمد الغزالي المكنّى بحجة الإسلام، وتعمية ظهوره الشرس من بعض محبي الإمام ابن تيمية، مقابل ما يشبه التقديس للإمام ابن تيمية عزّز هذه الانفصالية الموهومة، فالموقف من أئمة الإسلام وفقهائه الكبار لا يجب أن تؤخذ كجماعات وشيع وفرق، وإنما كرموز علم وتثقيف شرعي للأمة، يخطؤون وليسوا معصومين، ولكنهم بالجملة قدموا إضافة نوعية في مسارات الوعي الأصولي، من الأحكام إلى الفلسفة والتعامل مع الأحداث الكبرى.
لكن مفصل الحوار المهم مع الشيخ فيصل وقد انزوى مساحة من الزمن في شراكته في مسؤولية قناة الجزيرة، ولعلها عمقّت من فكره، أن هناك محور مهم غير معتنى به، وهو النزعة التنويرية في المسلك السلفي، واستشهد بمواقف أئمة سلفية الشام وخاصة اجتهادات الشيخ جمال الدين القاسمي العديدة في هذا الإطار، من التعامل مع مستجدات العصر، وسَبْقِهِ لعلماء المذاهب التقليديين فيها، وإجمالا مدرسة سلفية الشام ومصر المتأخرة، مرتبطة بنزعة التنوير للسيد جمال الدين الأفغاني، والامام محمد عبده، وتكرست أكثر مع أ. محمد رشيد رضا، أي أن هذا النزع التنويري أصيلٌ وعميق في العصر الحديث، وبالتالي فإن ظاهرة السلفية التنويرية حقيقة وليست وهما.
والحديث عن ذلك يجر إلى ما يمكن تسميته العمق الفلسفي لهذا التنوير، لو أن السلفية عاشت بالفعل خارج هذه المصادمات الصعبة، وما تولّد من تجارب سياسية وعنف، نُسبت اليها قديما، فمسألة النزع لفهم العقل في النص، كان مدعاة بالفعل لرفض طقوس خرافة نحلت على المسلمين، وهي طقوس خرافة كلياً، لا مجال لتأويلها، أوهنت مقام العبودية وصدعته، كما أن فكرة العودة للنص لفهم دلالته وآلة الحديث المعرفية، العمق الفلسفي فيه أن الشريعة تبقى حاضرة بروحها، تجدد ما اندرس من مفهوم المقاصد في معلوم النص.
ولعل هذا المدار يُحتج عليه، بالواقع الذي ساد في فكر جماعات وكيانات سلفية، حوّلت قضايا خلاف إلى صراع وحروب، وغالت في الفروع، بل وفيما فيه خلافٌ أصلي، وجعلتُه في مقام الأصول وربما والت أو فاصلت عليها، وهو احتجاجٌ لا يمكن نفيه، كما أنه لا يمكن الادعاء بأن بقية المدارس لم يجري عليها خلل.
وإنما الواقع يشير، إلى إشكالية قائمة في توظيف المصطلح السلفي، خاصة حين استُخدم في القرون المتأخرة، في نزاعٍ مذهبي وسياسي شرس، وهذا ما قادني في ختام الحقيبة الحوارية مع الشيخ فيصل، أن أطلب منه الاستعداد للتصدي لهذه المهمة في إعادة توضيح الوعي السلفي، وتشجيع تيارات الإصلاح الديني فيه لمزيد من العطاء، وأن الدوحة مؤهلة للغاية، أن يؤسس فيها مركز الإمام ابن تيمية للتجديد الثقافي، آمل أن يدشن ويخوض بو عبد الله عبره مهمته التاريخية.
بقلم : مهنا الحبيل
من ما سمّاه أبو عبد الله، اللحظة الراهنة لأي انعطاف سلفي عاش أزمة مجتمع وظرف وقتي وصراع سياسي أو مذهبي، فلا يجوز أن يظل الانعطاف الوقتي، قاعدة تأصيل للفكر السلفي، الذي نتفق وإياه فيه، على أن الإمام ابن تيمية هو رائده الكبير، وأنه كما قال الباحث المتخصص فيه د. محمد السيد الجليند، أن ابن تيمية ظُلم من محبيه قبل كارهيه، في إشارة إلى نسبة بعض قضايا الغلو والتشدد التي أحدثها بعضهم، ولم يكن يؤمن بها فضلاً عن أن يقول بها.
كما أن الوحشة التي صُبت في رأيي، على عددٍ من أئمة الإسلام، كالإمام محمد الغزالي المكنّى بحجة الإسلام، وتعمية ظهوره الشرس من بعض محبي الإمام ابن تيمية، مقابل ما يشبه التقديس للإمام ابن تيمية عزّز هذه الانفصالية الموهومة، فالموقف من أئمة الإسلام وفقهائه الكبار لا يجب أن تؤخذ كجماعات وشيع وفرق، وإنما كرموز علم وتثقيف شرعي للأمة، يخطؤون وليسوا معصومين، ولكنهم بالجملة قدموا إضافة نوعية في مسارات الوعي الأصولي، من الأحكام إلى الفلسفة والتعامل مع الأحداث الكبرى.
لكن مفصل الحوار المهم مع الشيخ فيصل وقد انزوى مساحة من الزمن في شراكته في مسؤولية قناة الجزيرة، ولعلها عمقّت من فكره، أن هناك محور مهم غير معتنى به، وهو النزعة التنويرية في المسلك السلفي، واستشهد بمواقف أئمة سلفية الشام وخاصة اجتهادات الشيخ جمال الدين القاسمي العديدة في هذا الإطار، من التعامل مع مستجدات العصر، وسَبْقِهِ لعلماء المذاهب التقليديين فيها، وإجمالا مدرسة سلفية الشام ومصر المتأخرة، مرتبطة بنزعة التنوير للسيد جمال الدين الأفغاني، والامام محمد عبده، وتكرست أكثر مع أ. محمد رشيد رضا، أي أن هذا النزع التنويري أصيلٌ وعميق في العصر الحديث، وبالتالي فإن ظاهرة السلفية التنويرية حقيقة وليست وهما.
والحديث عن ذلك يجر إلى ما يمكن تسميته العمق الفلسفي لهذا التنوير، لو أن السلفية عاشت بالفعل خارج هذه المصادمات الصعبة، وما تولّد من تجارب سياسية وعنف، نُسبت اليها قديما، فمسألة النزع لفهم العقل في النص، كان مدعاة بالفعل لرفض طقوس خرافة نحلت على المسلمين، وهي طقوس خرافة كلياً، لا مجال لتأويلها، أوهنت مقام العبودية وصدعته، كما أن فكرة العودة للنص لفهم دلالته وآلة الحديث المعرفية، العمق الفلسفي فيه أن الشريعة تبقى حاضرة بروحها، تجدد ما اندرس من مفهوم المقاصد في معلوم النص.
ولعل هذا المدار يُحتج عليه، بالواقع الذي ساد في فكر جماعات وكيانات سلفية، حوّلت قضايا خلاف إلى صراع وحروب، وغالت في الفروع، بل وفيما فيه خلافٌ أصلي، وجعلتُه في مقام الأصول وربما والت أو فاصلت عليها، وهو احتجاجٌ لا يمكن نفيه، كما أنه لا يمكن الادعاء بأن بقية المدارس لم يجري عليها خلل.
وإنما الواقع يشير، إلى إشكالية قائمة في توظيف المصطلح السلفي، خاصة حين استُخدم في القرون المتأخرة، في نزاعٍ مذهبي وسياسي شرس، وهذا ما قادني في ختام الحقيبة الحوارية مع الشيخ فيصل، أن أطلب منه الاستعداد للتصدي لهذه المهمة في إعادة توضيح الوعي السلفي، وتشجيع تيارات الإصلاح الديني فيه لمزيد من العطاء، وأن الدوحة مؤهلة للغاية، أن يؤسس فيها مركز الإمام ابن تيمية للتجديد الثقافي، آمل أن يدشن ويخوض بو عبد الله عبره مهمته التاريخية.
بقلم : مهنا الحبيل