((غالا بُحَيْرَة بَيْنَ غَمَّازَتَيْن أَطْفَأَ فيها إيلوار ظَمَأَه إلى نَبْعٍ يَرْوِيه وجَدَّدَ فيها حَنينَه إلى أملٍ يُحْيِيه..))
صباح الحَرف.. مساء الحَرْف..
لِكُلّ قارئٍ مُحِبٍّ لما يَكتُبُه أهلُ الحُبّ نُواصل تَصفُّحَ الأوراق التي يقول فيها القلبُ للقلبِ كلماتٍ لزمن آخر لا يَخَرُجُ عن زمن الحُبّ، الرسائل، رسائل الحُبّ التي هي بُغْيَةُ السائل.
اليوم بإذن الله نقول كُلَّ شيء عن العاشق إيلوار ومعبودته غالا لِنُغْلِقَ هذه النافذةَ الروسية الفرنسية ونغادر الديارَ الغربية..
إلى أين؟!
طبعا لن تتوقف رحلتُنا هنا، كيف لا ونحن سَنَعود مُحَمَّلِين بسِلال الشوق إلى الخيمة العربية حيث للعشق رائحة القهوة العربية، ولفنجان الحُبّ العربي نكهة الفلفل الأسود والقرفة والزنجبيل والهيل..
أما عن الغِرِّيدَيْن إيلوار وغالا، فقد قُلنا إن نارَ المسافات جعلتْ قلبيهما المعذَّبين يستشيطان، فالحُبّ مُرّ، مُرّ، والأمرّ منه الانتظارُ..
ذاك الانتظار يتراءى لك جرعاتٍ تُمِيتُك موتا بطيئا، بل يتخذ صورةَ معطفٍ أسود يجعل الدنيا تسودّ في عينيك ويحجب عنك ضوءَ النجوم لتتحول إلى جُثَّةِ ليلٍ يمشي على قدمين لا يُضيء خطاهما قمرٌ..
وهكذا كان كل من إيلوار وغالا بعيدا عن نصفه الآخر وتوءم روحه الذي يقتله الشعورُ بالضَّيْم في غياب الغَيْم، الغيم الماطِر باللقاء، بل أكثر من ذلك خذلان القَدَر له لَمَّا لَفَحَتْهُ نارُ الاختيار الصعب بين الانتظار والانتحار.. ولم تَخُنْهما الجرأةُ (إيلوار وغالا) ليضعا حدا لمهزلة بُعْدِ أحدهما عن الآخر، لكنه الإيمان القوي بالحُبّ الذي كان يضخُّ الدمَ في مُحَرِّكَيْ قلبيهما.
وإذا كانت غالا تبدو لنا قويةَ الشخصية نسبيا مقارنة مع ايلوار، فإن هذا الأخير بدا لنا كَمَنْ فَعَلَ به الحُبُّ ما تفعله العقاقير المهدئة بصاحبها، استسلم كليا للمرأة الغرام، وأَوْغَلَ في العَوْمِ بقلبه عاريا في بحر الهيام..
أَمَازِلْتِ يا امرأة تبحثين عن نسخة لإيلوار؟! وأنتِ، وأنتِ، وأنتِ؟! لا تجدن له مثيلا في زمنكنّ، لا تجدن صدقَ إحساسٍ، لا تجدن فيضَ عاطفةٍ، لا تجدن تدفقَ مشاعر، لا تجدن سوى من يفرُّ مخلِّفا وراءه أنقاضَ صَرْحٍ مغشوشٍ يُقال إنه الحُبّ!
إنه الحُبُّ؟! لا، إنه الجُبُّ الذي يَتِمُّ دَفْنُكُنَّ فيه، تسقطن فيه مغمَضاتِ القلبِ، ولا ينتشلكن منه سوى الزمن بعد أن تعتصرَكُنّ الحسرةُ..
إيلوار عاشق حسَّاس، لا يحمل بين ضلوعه حَجَراً، إنما يحمل قلبا ينبض، لذلك تَجِدْنَه يترفَّع عن أن يكون أنانيا، لم يُسْقِطْ حبيبتَه في حفرة الخذلان، ولم يكن يوما مُحِبّا لنفسه، فالصَّبِية غالا كانت حُبَّه الكبير، ودون حبيبته لا معنى لحياته..
وهل من معنى لحياة إيلوار في غياب غالا، غالا الشمس التي تُشرق من العين إلى العين، غالا بُحَيْرَة بين غَمَّازَتَيْن أَطْفَأَ فيها إيلوار ظَمَأَه إلى نَبْعٍ يَرْويه وجدَّدَ فيها حَنينَه إلى أملٍ يُحييه..
إنها غالا، غالا المرأة المثالية في عينيْ عاشقٍ لا يُبْصِرُ في خريطة النساء حُدودَ مَدينةٍ سواها (غالا)، ولا يلمح في مرآةِ العشقِ وجها سواها..
لقد ظل إيلوار يَهْذي بحُبِّه لمولاته، ولم تَدْفَعْه الأنانيةُ إلى البحث عنها حين يشاءُ وهَجْرِها حين لا يشاء.. فهذا ما لا يفعله الرقيقُ إيلوار، هذا لا يفعلُه إلا حبيب أناني، حبيب لا يستحقُّ أن يُحَبَّ..
ما معنى أن يُفكر الرجُلُ في نفسه فقط، ويُسْقِط من حساباته أن هناك قلباً مُعَذَّباً يَكْويه الانتظارُ ومُنَى عينِه أن تَصِلَه رسالة واحدة (من الطرف الآخَر) تُؤَكِّدُ له أنه بخيرٍ قبل أن تؤكد له (أو لا تؤكد) أيَّ شيء آخَر؟!
هل يَجْرُؤُ إيلوار على فِعْل هذا؟!
ولماذا؟!
الأنانيةُ في الحُبّ تَقتلُ قلبَ الآخَرِ.. يقينا تَقتلُه وتَصْلب جُثَّتَه على جدار الذكرى، ولْتَأْخُذْ أنتَ العِبْرَة..
»لا أحد يَسْتَحِقُّ حُبِّي»!
مَن قال هذا؟! أهذه رسالة؟!
طبعا ليس إيلوار مَن قال هذا، ولا قالته غالا..
لا رَجُل يستحقّ الحُبَّ، هذا ما قُلتُه لكاتبٍ من أستراليا جوابا عن لسان حال البطلة في نص إبداعي لي بَلَغَ الإعجابُ به عند الكاتب القارئ درجةَ الشَّغَف.. تَرَكْتُهُ يُحلِّلُ ويُناقِش، وحَمَلْتُ حقيبةَ زمني وغادَرْتُ المحطةَ..
هل من العدل ألا يستحِقَّ رجُل أن تُحِبَّه امرأة؟!
من المؤكَّد أنه سيكون حُكْما جائرا في حالة إيلوار، ولَنْ تُعَوِّلَ امرأة على أن تَجِدَ في زمنها بديلا لإيلوار.. يقول لي عقلي إن الزمنَ لن يجود مرة ثانية بإيلوار..
محظوظة أيّ أنثى يُتَوِّجُها العِشقُ رَبَّةَ العِشق كما تَوَّجَ إيلوار غالا رغم سُحُبِ الشّكّ التي خَيَّمَتْ على سمائها، والشَّكُّ شَوْك لا تَسلَم من وَخْزِه امرأة..
إنها ثَوْرَةُ الشكِّ لِمَنْ لا تَعْرِفُها منكنّ يا صغيرات!
لا تَفْرَحِي كثيرا يا مَن تَنْتَشين بقلبِ رجُلٍ تُطَوِّقينَه في كَفِّك.. تَمَهَّلِي! فبَعْدَ حين ستُدرِكين أنك على الماء بين أصابعِك تَقْبِضين!
أفي هذا دعوة إلى الشكّ على طريقة غالا؟!
أَلَيْسَ إيلوار من قال في رسالة:
«سأُحِبُّكِ دَوْماً تأكَّدي من هذا» (رسائل إلى غالا)؟!
ألا نرى أن هذه الرسالة ترسم أكثر من علامة استفهام وتَعَجُّب:
هل كانت غالا تَشكّ في حُبِّه لها؟!
ألم تكن توسلاتُه كافية لتُزيل من رأسها فكرةَ أنه قد يقوى على هَجْرِها؟!
أم هي طبيعة الأنثى الميَّالة إلى الشكّ حتى في غياب أسباب الشكّ؟!
انظروا كيف كان شكُّ غالا كالمارد الذي لا ينام في قمقمه إلا ليستيقظ مجدَّدا ممارسا سَطْوَتَه بشكل جُنوني.. ألا ترونها تُراسِله قائلة:
«إذا لم تكن تحبني، ربما لأنني أَضْعَف من أن أضعَ حَدّاً مرة واحدة لحياتي» (رسائل إلى غالا).
يا للسخرية!
هل تكون محاولاتُ وَضْعِ حَدٍّ للحياة طَوْقَ النجاة من الشكّ العاصف بكبرياء امرأة من طينة غالا؟!
ماذا لو نَجَحَت محاولةُ الموت؟!
هل الموتُ سيقتل غربان الشكّ إن كان هناك دافع للشك أصلا؟!
ثورةُ الشك يُسْمَعُ لها صوت مع بداية التباعد والتنائي بين الطائرين الحزينين إيلوار وغالا. ولا غرابة ألاّ تخلو قصةُ حُبّ من غيرة وشك، فهما بمثابة الملح، مِلح الحُبّ، ذاك الملح الذي قليلُه يَنفع وكثيرُه يضرّ.
إنها الشُّكوك صَدِّقُوا، الشكوك التي تختلج اختلاجا في أدغالِ غابةِ عِشقٍ تُسمى القَلْب..
وهذا إيلوار يَنْكأُ الجرحَ برسالة تدرُّ الرمادَ في العيون، قبل أن يُرَطِّبَها بجَفْلَةِ القلب المجنون، المجنون بحُبِّها:
»اسمحي لي أن أشكّ في جدية المرض الذي تقولين إنك تعانين منه، وأنه هو يمنعك من المجيء إليّ، لكن اعْلَمِي يا صغيرتي أني لا ألومك بل أرغب أن تكوني حرة تماما» (رسائل إلى غالا).
كَأَنَّ إيلوار يَدْهُنُ كلامَه ليُخَفِّفَ من قسوته على من يهواها ويَحِنُّ القلبُ لذكراها في غمرة البُعد الذي غَيَّب طيفَ أحدهما عن الآخر.
لكن هل كانت غالا تتفهَّمُ شكوكَ رَجُلٍ أَعْماه الحُبُّ؟!
وهل كانت لِتَرْضى وتَقْبل باتهاماته المتوالية التي تَنْفُخُ في نارها ريحُ الغياب؟!
لا، طبعا لا، فنبرةُ الشكِّ في لسان إيلوار كانت تُوجِعُ قَلْبَ معبودته، فتضطر المسكينةُ إلى كتمان صرخة القلب لولا الأنين الذي كان يَفْضَحُ الوَجَعَ الدَّفِين:
»لا تعرف كم تُؤلمني بشكوكك. إنني لا أُحِبُّ سِواك» (رسائل إلى غالا).
قضبان الألم كاوية، فهل تُجْدِي كلماتُ الحُبِّ الرقيقة لتُطْفِئَ النارَ وتَلْأَم الحُروقَ؟!
هذا ما تُجَرِّبُه غالا مُضيفة في رسالة:
»لا أعرف أحدا. ولا أخرج إلى أي مكان إلا إلى المدرسة. ولا تأتيني رسائل إلا من أهلي» (رسائل إلى غالا).
يا له من إخلاص! كيف لا والحُبُّ سلطان لا تُرَدُّ كلمةٌ أمام أَمْرِه ونَهْيِه؟!
ثُمَّ تُواصل غالا تلطيفَ الجَوّ الذي حَجَبَتْ شمسَه غُيومُ الشكّ الحُبْلَى بالمرارة:
»ترى كم أنا مُطيعة برغم كُلّ تهجُّماتك عَلَيَّ» (رسائل إلى غالا).
فإلى متى تستمر غالا في التخفيف من وطأة الجُرْح والتلطيف، وهذا الإيلوار أَرْهَقَها بدَبَابِيس شَكِّه التي زَرَعَها على امتداد روحها المنكسرة؟!
تَعِبَتْ غالا، حَقّا تَعِبَتْ:
»إذا كُنْتَ ستعود إلى أسئلتك الشَّكَّاكة فأنا تَعِبَة» (رسائل إلى غالا).
فهل تكتفي المسكينةُ بالتعبير عن تَعَبِها وتَصمتُ؟!
لا طبعا، فستؤكد له بالدليل القاطع أنها فوق كُلّ شَكّ:
»أنا أَثْبَتُّ لك حُبّي، جئتُ من البعيد إليك، إلى بيتك» (رسائل إلى غالا).
أحقا فَعَلَتْها غالا؟!
أحقا لأَجْلِ عينيْ إيلوار أَحْرَقَتْ غالا زَرْعَ القلبِ بهَجْرِها لأهلها وذويها لا لشيء سوى لتَسْقي غابةَ الحُبّ التي أَوْرَقَتْ بين ضُلوعها؟!
محظوظ مَن لأجله تُغَيِّرُ المرأةُ جِلْدَها، فتحرقُ المسافاتِ طَلَباً لوِصال عينيه!
لكن هل قَدَّرَ إيلوار كُلَّ هذا؟!
»لو أعلم أنكَ تحبني حقا، بعيدا عن كبريائك وعن خوفك من أن تكون جبانا، أو أنك لا تحبني مطلقا. آه لو أستطيع أن أتأكدَ» (رسائل إلى غالا).
مازالَتْ سُحُبُ الشَّكّ تَحُول دون أن تُغَرِّدَ عصافيرُ القَلْب طَرَباً بشُعاع الشمس. وها هي صرخةُ الكبرياء الدفينة يُتَرْجِمُها فَمُ قَلَمِ غالا:
«إذا لم تَكُنْ تُحِبُّني كما أُحِبُّك، فلا أستطيع أن أتوسل إليك» (رسائل إلى غالا).
يا لجبروت المرأة! الرجل المسكين إيلوار ينحني ويركع ويتوسل وينقل أحاسيسَه بأمانة، بينما الْمُتَمَرِّدَة غالا تَجِدُ في التوسل إهانة!
فأيّهما يُحِبُّ الآخَرَ أكثر؟!
هذا ما يصعب علينا تقديره، فرسائلهما معا تحْرِق القلبَ وتُفَجِّرُ الدموعَ إكراما للحُبّ.
وها هو الْمُتَيَّم إيلوار لا يطلب شيئا من الحياة سوى أن تُمْطِرَه غالا بحروفٍ على ظهر رسالة. جَرِّبْ أن تَسْأَلَه يُجِبْكَ: لَنْ أَشْبَعَ.. لَنْ أَشْبَعَ.. لَنْ أَشْبَعَ..:
«طلبي الوحيد إليك إذا شئتِ أن تُعَزِّيني على فراقك أن تكتبي إليّ بقدر ما تستطيعين كما أفعل أنا اليوم وأبدا» (رسائل إلى غالا).
«عجباً»! هكذا سيستغرب الجاهلون بأحوال الحُبّ.. سيقولون: وما الذي يُذِلُّك يا رَجُل، دَعْها، فثَمَّةَ سِواها ما أكثرهنّ..!
لكنه القلب الملتاع لا تملأ عينيه سوى حبيبة الروح. ولهذا يَمْضي المسكين إيلوار في استجداء عَطْفِ حبيبتِه عَلَّها تَتَصَدَّقُ عليه بحروف، كيف لا وهي سيدة الحروف التي أَلْهَمَتْ إيلوار ما أَبْهَرَ به من أشعار:
«أنتِ التي أَمْلَيْتِ عَلَيَّ كُلَّ قصائدي».
يا للروعة! على الأقل تُذْكَرُ للعشق حسنةٌ وحيدة إن لم يُذْكَرْ سواها، فالعِشقُ هو منبع الإلهام الذي يَجْعل الشاعرَ يُمْطِرُ كالغَيْمة، ويُسَلْطِنُ بالكَلِمة.
إنه الحُبّ! الحُبّ الذي يُغيِّر، ويُعِيدُ تَشْكيلَ تَضَاريس الروح:
«أمي كانت تُلَقِّبُني بالأميرة لأنني لم أكنْ أعمل شيئا في البيت، حتى لنفسي، لكنني أعمل الآن لأجلك. سترى ذلك بنفسك عندما تأتي. ولن أَدَعَ أحدا يراني أَعْمَلُ حتى ولا أنتَ» (رسائل إلى غالا).
انظروا، هذا ما يفعله الحُبّ، الحُبُّ يُغَيِّرُك تغييرا جذريا من أجل أن تُرضي من تُحِبّ.
مَن كان يتصور أن الْمُدَلَّلَة غالا ستُعِيدُ كوب ماءٍ إلى مكانه أو تُرَتِّبُ سريرا أو تُنَظف طاولةً؟! وها هي الآن بعد أن غَيَّرَها الحُبُّ (إلى الأحسن طبعا) تجتهد لِتُدْخِلَ البهجةَ على قَلْبِ مَن تُحِبّ:
«حِكْتُ لك كنزةَ صوفٍ، وكنتُ سعيدة أنها أَعْجَبَتْ أُمَّك التي دهشتْ من عملي المتقَن. ولو أن والدتي شاهَدَتْنِي لَمَا صَدَّقَتْ عينيها. أَيَكُونُ أنَّك غَيَّرْتَني؟» (رسائل إلى غالا).
المسكينةُ غالا، تطرح السؤالَ، ولا تنتظر الإجابةَ من أحد، فهي تَعْلَمُ أن الجوابَ عندها، وأن كل ما حصل في حياتها هو تحوُّل طبيعي يُمْلِيه الحُبُّ عليك، فتسعى جاهداً لِتَقْرَأَ في عَيْنَيْ حبيبِك نظرةَ رِضى وابتسامَةً تشِعُّ دفئا.
إنه الحُبّ! وما يكون الحُبُّ سوى الكنز الكبير الذي ناضَلَتْ غالا من أجل الحصول عليه بكل طهره وبهائه:
«في استطاعتك أن تكرهني وأن تشتمني لكن لا تشتمْ حُبِّي» (رسائل إلى غالا).
الحُبُّ ضَربةُ حَظٍّ، وقليل من يُسْعِفُهم الحَظُّ!
حُبُّ غالا عَلَّمَ إيلوار معنى النقاء، والإخلاصَ الذي لم تَسْتَوْعِبْه قبل فَواتِ الأوان عينان شَكَّاكَتَان.. ويا لهذا الإيلوار المريض! كيف في وسعه أن يُشفى من حُبّ غالا؟! ألا يستحق أَلاَّ يحصدَ الحُبَّ وهو لا يزرع إلاَّ الحُبّ؟!
بَذَخُ عواطفِ إيلوار يَشِي بأنه لم يَكُنْ يوما رَجُلاً بخيلا لا يَتَصَدَّقُ بسخاءٍ تعبيرا عن أحاسيسه الدفينة التي تشتعل لها المرأةُ رقصا وطربا ونشوة.. وأيّ امرأة؟! إنها غالا التي ما فتئ يَتَغَزَّلُ بها إلى درجة أن يُصَرِّحَ بأن قوةَ عينيها كانت تحميه من الانهيار..
غالا ظَلَّتْ غالية، وظَلَّ صاحبُنا يخشى أن تَجْرَحَها نسمةُ هواء.. ولا يَمُرُّ وقت تنقطعُ رسائلها دون أن يَتَعَذَّبَ ويحترق، يَخِيط بِإِبْرَةِ الدموعِ مَساءاتِه التَّوَّاقَةَ إلى رائحة أُنْثَاه..
«إيلوار – غالا» أُسْطُورَةُ عِشقٍ شَغَلَتِ الناسَ، يكفي أنَّ بَطَلتَها غالا التي وصفها أندري بروتون بالمرأة الخالدة نظرا لقوة تأثيرها على من أَحَبُّوها وهُم كُثر.
فهل كان من الحكمة أن يظل إيلوار مرابطا في معبد الكتابة لغالا حُبِّ عُمرِه رغم اقترانه بسواها، زوجته «نوش» الفاشلة في ردّ الاعتبار للحُبِّ الذي طار؟!:
«ها هي نوش قربي تسألني ماذا أفعل، فأقول لها إنني أكتب إلى صغيرتي غالا» (رسائل إلى غالا).
لم تكن نوش أكثر من محاوَلة (أخفقتْ) لِيُجَرِّبَ إيلوار حظَّه مع امرأة أخرى. قبيلة من النساء لن تَحْفر في قلبِ إيلوار بقدر ما حَفرَتْ غالا، ولن يرسمن على سُورِ قلبِه خَريطةَ مدينة العِشق التي رَسَمَتْها غالا.
يُهَرْوِلُ الزمنُ ساحبا أذيالَ السنوات، لكن مَطرَ الفراق لم ينجحْ في إطفاء جمرةِ حُبِّها المشتعلة (غالا) رغم البُعد.. فهل ستملأ امرأةٌ أخرى الفراغَ الذي خلفَتْهُ غالا؟!
حين يَرْكعُ قلبُكَ لِامرأةٍ، تَأَكَّدْ أنَّ تاءَ التأنيث تجرُّ نونَ النسوة هاربتين باحثتين عن حفرةٍ لِسَتْرِ خجلهما في ظل تلاشي معنى الأُنُوثَةِ الذي لا يَصِحُّ لك كإيلوار أنْ تَقْرَأَه في غير غالاكَ عِطْراً وزِينةً وروحا وبَوْحاً..
هكذا فَتَحَتْ لنا حقيبةُ سمير شهيةَ الكتابةِ بعد أن ضَاعَ عِطْرُ الحُبِّ منها ضَوْعاً واشْرَأَبَّتْ أَعْناقُ رسائلها لِتَبُوحَ العيون الناعسةُ الآسِرةُ بضَرْبَةِ العِشقِ الساحرة التي تُخَدِّرُ الروحَ..
هل تتوقعون إلى أين ستأخذنا رحلةُ العِشق الموالية؟! تَصَوَّروا إلى أين سنَشدُّ الرحال! إلى فلسطين.. صَدِّقُوا. ولْيَكُنْ سفرُنا الأخير على ظَهْرِ حقيبة سمير إلى خَيْمَةِ عاشقٍ فلسطيني.. لن أُشَوِّقَكم أكثر.. أَرَاكُم بِعَيْنَيْ القَلَم السبت المقبل بإذن الله.. ولْيَكُن المكانُ شُرفةَ الحَرْفِ.
بقلم : د. سعاد درير