((مَنْ ألقى به في وادي عبقر ليَغْتَسِلَ ويَتطهَّرَ ويَتَدَثَّرَ بغطاء العاطفة الدافئ))
صباح الحرف مساء الحَرْف..
هو نخلة من فلسطين، شجرةُ زيتون زيتُها حروفٌ مبارَكة، عاشق منفلت، لا ترسو سفينتُه عند مرفإٍ، ولا تحملُ قدميه أرضٌ، طائر مُغَرِّد لا يمكنك أَلاَّ تُصَفِّقَ لتغريده، شاطئ دافئ يَصول ويَجول فيه الموجُ حبرا.. هو إنسان، رُوحُه بأكثر من روح، عَقْلُه بوزن قبيلة من الذكور، أرائكُ قلبِه الدافئة تسعُ شعبا مهجَّرا بعدد أشجار سوريا الباحثة عن هامش للكرامة والحرية.. حُروفُه تقول كُلَّ شيء.. ما رأيكم أن نقف عند سمير البرغوتي العاشق؟!
«وتريات نبضية» عنوان رسالة شعرية للكاتب يَعْزِفُ فيها على أوتار قلبه ليجسّ نبضَه حُبّا. هي سيمفونيةُ بَوْحٍ فريدةٌ من نوعها (في قاموس الكاتب)، فمنذ بدايات الرسالة يبين لنا الكاتب بأننا إزاء رسالة:
«أكتب لكِ من فيينا..» (سمير البرغوتي، وتريات نبضية).
ها نحن منذ البدء نحصل على اعتراف من الكاتب يؤكد أنه بصدد كتابة رسالة.
لاحظوا هنا أن الكاتبَ يستهل رسالتَه بمقدمة فضفاضة تأتي فيها صورة المرسَل إليها عائمة، وكأنه يُذَكِّرُ بالمقدمات الطللية التي كان يكتبها شعراء الزمن القديم قبل أن يفتحوا بابَ المدح والغزل:
«أكتب لكِ من فيينا، اتفقوا على أن يبقى العرب تحت حالة الرعب حتى يستمر استنزافهم، لهذا سنبقى البقرة الحلوب التي تروي ظمأهم» (سمير البرغوتي، وتريات نبضية).
أوهناك مقدمة طللية أكثر من البكاء على الأمان الذي غاب مع بداية موقف الرعب الذي آل إليه الوضعُ عند العرب في ظل اجتثاث جذور شجرة الدفء التي كان العربي يستظل تحت فيئها، ومع زوالها زال الخير والبركة؟!
إنها خطة مُدَبَّرة لاستنزاف الثروات العربية وخلق حالة من الفوضى التي ليس من العدل ألا تعود بعدها الأمور إلى نصابها رغم قرابين الدماء العربية التي يشهد تاريخُنا المعاصر بأنها صنبور فتحَه أعداؤنا وما أمكن لنا أن نُغْلِقَه.
لهذا قلنا إن الإشارةَ إلى الخراب العربي الْمُبَرْمَج له في رسالة الكاتب ذات الطابع الشعري لا تختلف عن صورة الأطلال في مطلع القصيدة العمودية.
وهنا نفتح قوسا على السؤال: هل المرسَل إليها التي يكتب لها الكاتب قابعة بعيدا عن فيينا الشاهدة على ليالي أُنْسِ مؤتمراتها التي لا ندري ماذا تحلُّ وماذا تربطُ؟!
هل فِعْلُ الكتابة في حَدِّ ذاته من فيينا يُثْبِتُ إلى أي مدى لا يُطيق الكاتبُ بُعْدَه عن المرسَل إليها التي تتفق المؤشراتُ على أنها خارج نطاق فيينا وخارج مدار القطار الغربي؟!
على أن التحسيسَ بالقالَب الرسائلي الذي اتخذته «وتريات نبضية» لا يَغِيب عن التحقق على أرض النص في أكثر من حَيِّز آخر. ولذلك ما أن يتجاوز الكاتب عتبةَ المقدمة الطللية حتى يُسَمِّي الأشياءَ بمسمياتها ويضعَ النُّقَطَ على الحروف مُصَرِّحا بأن المقامَ مقام رسالة غرام:
«حبيبتي» (سمير البرغوتي، وتريات نبضية).
هي رسالةُ حُبٍّ لا يختلف فيها اثنان. تُرْفَعُ ستارةُ الكتمان، ويبدأ العرضُ الإعلانَ، إعلان الأشواق التي يتلاطم موجُها متلاعبا بقارب الكاتب الذي يجدف بحروفه إلى حيث يطيب لنا التأملُ والمعايَنة:
«أكتب لكِ لأقول إنكِ منذ أن غادرْتِ وأنتِ معي..» (سمير البرغوتي، وتريات نبضية).
إذَا رَبَطْنا هذا البعد الدلالي بعنوان الرسالة، فإن في وسعنا أن نُقَدِّمَ قراءةً فيه (العنوان) على النحو التالي: النبضُ (نبض الكاتب) نُوتات موسيقية تأخذ صورةَ معزوفةٍ شفيفة يتم عزفها على أوتار القلب التي فيها يَكتبُ الكاتبُ بأصابع ذائبةٍ سيرةَ الحُبّ الذي كان قبل أن يَطويه الزمان.
هل هذا كُلُّ ما تَوَفَّرَ من دلائل على أن الكاتبَ لا يخرج عن إطار الرسائل؟! طبعا لا:
«أَكْتُبُ لكِ من غزة ولهيب المعركة يشعلني شوقا إليك..» (سمير البرغوتي، وتريات نبضية).
بيتُ القصيدِ الشوقُ. الشوقُ في رسالة الكاتب رمالٌ متحركة استدرَجَتْهُ إليها بِضَرْبَةِ عشقٍ خَلَطَتْ أوراقَه وأَرْبَكَتْ حساباتِه في قضية مصيرية، قضية القَلْب الذي لا ندري إلى أيّ مدى تَأَهَّبَ لمعركة الحُبّ، فكان النِّزالُ، وكان سمير ونساؤه.
لِنَتَسَلَّلْ أكثر إلى العالَم الخاص لسمير البرغوتي الذي ارتمى في حضن «نبضة» لِيُمَرِّرَ رسالتَه إلى أنثى- إناث.
فمَن يَكْتُبُ لنا هنا؟! أهو حقا سمير الذي نَعْرِفُه؟! أم هو شاعر رقيق منسي تَسَلَّلَ إلينا هاربا من مقبرة زمنه الضارب في عَتَاقَة العاطفة؟! مِنْ أين له بكُلِّ هذا الكلام الذي لم يَسْبِقْ أن أَشْرَقَ به علينا في سائر حلقات «نبضة»؟! مَنْ ألقى بسمير في وادي عبقر ليغتسلَ ويتطهر ويتدثر بغطاء العاطفة الدافئ الذي يَصِلُه بحرارة الحُبِّ التي تُعِيدُ مياهَ القلبِ إلى مجاريها؟! مَنْ تكون هذه الأنثى الجَبَّارة التي استدرجته لِيَفْتَحَ لها أزرارَ مِعطفِ حياتِه وأزرارَ قَميصِ قلبِه؟! لِمَنْ كتَبَ زميلُنا هذه النفحات النورانية؟!
التخمين في هذه الحالة أقرب إلى الباب الضيق الذي لن يُشْبِعَ فضولَك عزيزي للتسلل إلى خبايا عالَم سمير الغامض، ولن يَسْتَدِرَّ فُضولُك عَطفَه (كاتبنا) لِيَجُودَ عليك باعترافٍ لاحقا يُقِرُّ فيه بهوية هذه الكائنة السخية الْمِعْطاء التي لَفَحَتْهُ بهذا القَبَس من الإلهام الذي باغَتَ به قُرَّاءَه. عندما تَخرجُ الكتابةُ إلى النور يكون دورُ الكاتب قد انتهى. لذلك لِنُسَمِّ المستهدَفةَ بنص الوتريات الحبيبة (أو الحبيبات)، لا شأن لنا بِـمَنْ تَكُون، يَهمُّنا فقط: ماذا صَنَعَت الحبيبةُ؟
«وتريات نبضية» نَصّ مُلَغَّم، هو في حد ذاته حقيبةُ أسرارٍ، تَفْتَحُها أنتَ كما تَفْتَحُ الأزرارَ، أزرار قميصٍ يَسْتر أكثر مما يكشف.. هو رسالة حُبْلَى بالشوق إلى زمنِ العشقِ الحالِم الذي لا ندري متى هَرَبَ منه الكاتبُ سليل آل برغوت الذين ربما خجل هو من الإساءة إليهم بالتهمة التي تَلَبَّسَتْه، العشق في زمننا الذي أضحى فيه الحُبُّ زَلَّةَ قَلْبٍ لا تُغْتَفَرُ.. زمننا البائس الذي بات فيه البَوْحُ حراما وكتمانُ نار الأشواق التي تَأْكُلُ قَلبَك قطعة قطعة حلالا طيبا، ولْتَحْتَرِقْ أنتَ يا عاشق..
عاشق حتى النخاع، حفيد لآل برغوت، أَيعقل أن يُصَرِّحَ بعشقه في زمن النار والاختيار؟! أيقوى العاشقُ المسكين على إخمادِ نارِ العشقِ التي يذوب فوق صفيحها؟! أيجرؤ على أن يجهرَ بعشقه ويُصَرِّح باسم مولاته أو بأسماء النساء اللواتي تناوبن على اعتلاءِ عرشِ قلبِه؟! وأيّ قلبٍ يَكُون قلبُه! إنه قلبُه المسافِر المنفلِت كحصانٍ جموح لا يلجمه حاجز ولا حدّ.. ولذلك يظلّ الرجلُ المحِبَّ العَبْدَ، أسير أشواقه ورغباته المستعصية في الاعتراف بمن تكون سيدةُ «أو سيدات» قلبِه المسكون بالحُبّ في زمن الرعب من أن ينكشف المستور، ويَعْجز المرء عن لَجْمِ لسانِ الأشواق التي تَثُور..
سمير البرغوتي عاشق! صَدِّقْ يا مَن لا تُصَدِّقْ. لكن كيف؟! ومتى؟! لِنَبْدَأْ بسؤال: متى؟ متى قَضَمَ سمير قَضْمَةً أو قَضْمَتَيْن أو أكثر من تُفَّاحة الحُبِّ التي تَذُوبُ في فَمِ العاشق كقطعةِ السُّكَّر؟!
أن يَنْشر الكاتبُ وترياتِه في 22 يوليو 2015 معناه أن حصانَ قلبِه بدأ يصهل عشقا قبل ذلك التاريخ. بحكمةِ العقل والمنطق، فإن الإنسانَ في غضون زمن العشق لا وقت لديه ليَكْتُبَ ويُعَبِّر، مهما بَلَغَ من الفصاحة والبلاغة. لن يَجِدَ العاشقُ المتيَّمُ وقتا لتأريخ لحظاتِ احتراقِ قلبِه وتَشَظِّيه حدّ التعذيب بما يَفعلُه فيه الحبيبُ. مِنْ أين للعاشق بالوقت الذي يَسْمَحُ له بإنفاق الزمن في غير العبادة، حين يرقى الحُبُّ إلى مقام العبادة؟! في زمن العشق المحموم، تَلْهَثُ أنفاسُ القلب الذي يرَكض ويرَكض مُطارِدا طيفَ الحبيب. زمنُ الكتابة يكون تاليا لزمن العشق. زمنُ الكتابة يحتاج منك يا عزيزي التريُّثَ والتأمل ولملمةَ الإحساس. أما زمنُ العشق، فلا مكان فيه للملمة الأنفاس.
فَمَنِ التي أَحبَّها كاتبُنا قبل ذلك الزمن؟! مَنِ التي لَوَّنَتْ لوحةَ حياتِه بألوان قوس قزح؟! لكن مهلا، ثِقُوا بأنها ليست سيدة واحدة. لماذا؟ لأن الوتريات تُلْقِي الضوءَ في أكثر من مُناسَبة على أنهنَّ (حبيباته) كثيرات، وهو ما عَلَّقَ عليه الطبيبُ الدكتور سيد برايا الذي تَلْمَسُ في دَبِيبِ حُروفِه تَثَاؤُبَها مُنَوِّهةً بسيرةِ العشقِ الذي انسابَ في لُغةِ الدكتور هادِرا بمائِه عُذُوبةً وحَلاوةً وطَلاوةً لا يُخْطِئها ذَوْقُ قارئٍ بعينِه الثالثةِ: «حُبّ وكلمات الحُبّ لم تَعُدْ تُورق ولا ينفجر بين الأصابع حريقُ شوقٍ.. لكنها الروح التي تَهْفُو.. دام قلبُك ونبضُه ووترياتُه التي يَسْكنُها حزنُ العاشقين» (سمير البرغوتي، ما أكثر حبيباتك سيدي).

بقلم : د. سعاد درير