+ A
A -
يقول بوكوفسكي: أينما يذهبُ الحشد، اذهب في الاتجاه الآخر، إنهم دومًا على خطأ!
تشارلز بوكوفسكي شاعر وقاصٌّ أميركي، قصصه أجمل بكثير من شعره، وسيرته الذاتية أجمل من كليهما، قرأتُ لكثيرين كتبوا سيرهم الذاتية، ولا تحتاج لكثير ذكاء وأنت تقرأ السير الذاتية لتكتشف كمية مساحيق التجميل التي يضعونها على سيرهم، أما بوكوفسكي فكان جريئًا جدًا ليعترف بضرب أبيه المتكرر لأمه، بعزلته الاجتماعية بسبب بثور حبّ الشباب التي كست وجهه، وبملابسه الغريبة التي كان والده يُصر على إلباسه إياها، وأخيراً اعترافه إدمان الخمور حتى بقيت مرضه وهروبه لآخر أيام عمره، وقد عاهدتُ نفسي منذ زمن أن أفصل بين الأديب وأدبه، فسيرة الأديب لا تقدح بنتاجه الأدبي، ولو أردنا أن نحاكم الأدباء بسلوكهم ما قرأنا لأبي نواس الذي يعاقر الخمر، وما قرأنا لابن أبي ربيعة الذي إن لم يُعجبها سلامه فالسلام على أخرى، وما قرأنا لابن كلثوم الذي يشرب إن ورد الماء صفوًا ويشرب غيره كدرًا وطينًا، ولما قرأنا للمتنبي السامق شعرًا، الوضيع تكسبًا!
مقولة بوكوفسكي تطرح أمامنا سؤالًا: هل يمكن لمجتمع ما أن يكون بغالبيته على خطأ؟
والجواب بلا تردد عندي: نعم!
لو تأملنا سيرة الأنبياء، لاكتشفنا أنهم بُعثوا في مجتمعات تعاني بأكملها خطبًا ما! وهذه بالحقيقة وظيفة الأنبياء، علاج المجتمعات المريضة! أُرسل نوح عليه السلام في مجتمع مريض بالشرك، وأُرسل لوط عليه السلام في مجتمع مريض بالشذوذ، وأرسل محمد صلى الله عليه وسلم في مجتمع يعاني انفصامًا رهيبًا، مكارم أخلاق لو تأملتها لأصبتَ بالذهول، يقابلها رزايا يقترفها نفس الأشخاص تصيبك بالعجب! ولو تأملت آيات القرآن لوجدتَ فيها أن أكثر الناس: تارة لا يعقلون، وتارة لا يؤمنون، وأحيانًا لا يفقهون، ومرة لا يشكرون، وأخرى لا يعلمون!
والعاقل لا يتنازل عن صوابه ليرضي الغالبية الخاطئة التي لا يرضيها إلا أن تشبهها، كما فعل الملك والوزير في قصة البئر الخرافية، التي تروي قصة مملكة جاءت إليها ساحرة، وألقت في بئرها تعويذة تصيب كل من يشرب منها بالجنون، فشرب الناس جميعًا إلا الملك والوزير، فثارت الرعية تُطالب بخلع الملك المجنون ووزيره!
عندها عمد الملك إلى ماء البئر فشرب منه، وناول وزيره، فاحتفل الناس بعودة الملك والوزير إلى رشديهما!
ولا يقتضي بالضرورة أن يكون كل ما في المجتمع خاطئا، فقلما يوجد مجتمع تكون كل قيمه فاسدة، والحل هنا ليس بطلاق المجتمع وإنما بفعل الصواب وترك الخطأ.
والكلام عن احتمالية مرض المجتمع لا يعني أن الذي يتبنى أفكارًا مخالفة على صواب، لأنه خالف الحشد، وسلك طريقًا غير الذي سلكه الناس
يحدث أيضاً أن يكون الأفراد على خطأ، فليس كل ما لا يُعجب الفرد يقتضي ثورة، أحيانًا يحتاج الفرد علاجًا! وأحيانًا كثيرة يشذّ الأفراد عن خط المجتمع من باب خالف تُعرف، ثمة نساء ما كنا لنعرفهن لولا أن تعرّين! وثمة رجال دين ما كنا لنسمع بهم لولا فتاواهم الشاذة، هؤلاء ينطبق عليهم المثل العربي: كالبائل في بئر زمزم. وقصة المثل أن رجلًا من الأعراب توجه إلى بئر زمزم وبال فيه، فاجتمع عليه الناس ضربًا ولكمًا حتى أنقذه جنود الحرم في الرمق الأخير، ولما رفعوه إلى الأمير، قال له: قبّحك الله، ما حملكَ على هذا؟ فقال: أردتُ أن يُشار إليّ ويُقال: هذا الذي بال في بئر زمزم!
بقلم : أدهم شرقاوي
تشارلز بوكوفسكي شاعر وقاصٌّ أميركي، قصصه أجمل بكثير من شعره، وسيرته الذاتية أجمل من كليهما، قرأتُ لكثيرين كتبوا سيرهم الذاتية، ولا تحتاج لكثير ذكاء وأنت تقرأ السير الذاتية لتكتشف كمية مساحيق التجميل التي يضعونها على سيرهم، أما بوكوفسكي فكان جريئًا جدًا ليعترف بضرب أبيه المتكرر لأمه، بعزلته الاجتماعية بسبب بثور حبّ الشباب التي كست وجهه، وبملابسه الغريبة التي كان والده يُصر على إلباسه إياها، وأخيراً اعترافه إدمان الخمور حتى بقيت مرضه وهروبه لآخر أيام عمره، وقد عاهدتُ نفسي منذ زمن أن أفصل بين الأديب وأدبه، فسيرة الأديب لا تقدح بنتاجه الأدبي، ولو أردنا أن نحاكم الأدباء بسلوكهم ما قرأنا لأبي نواس الذي يعاقر الخمر، وما قرأنا لابن أبي ربيعة الذي إن لم يُعجبها سلامه فالسلام على أخرى، وما قرأنا لابن كلثوم الذي يشرب إن ورد الماء صفوًا ويشرب غيره كدرًا وطينًا، ولما قرأنا للمتنبي السامق شعرًا، الوضيع تكسبًا!
مقولة بوكوفسكي تطرح أمامنا سؤالًا: هل يمكن لمجتمع ما أن يكون بغالبيته على خطأ؟
والجواب بلا تردد عندي: نعم!
لو تأملنا سيرة الأنبياء، لاكتشفنا أنهم بُعثوا في مجتمعات تعاني بأكملها خطبًا ما! وهذه بالحقيقة وظيفة الأنبياء، علاج المجتمعات المريضة! أُرسل نوح عليه السلام في مجتمع مريض بالشرك، وأُرسل لوط عليه السلام في مجتمع مريض بالشذوذ، وأرسل محمد صلى الله عليه وسلم في مجتمع يعاني انفصامًا رهيبًا، مكارم أخلاق لو تأملتها لأصبتَ بالذهول، يقابلها رزايا يقترفها نفس الأشخاص تصيبك بالعجب! ولو تأملت آيات القرآن لوجدتَ فيها أن أكثر الناس: تارة لا يعقلون، وتارة لا يؤمنون، وأحيانًا لا يفقهون، ومرة لا يشكرون، وأخرى لا يعلمون!
والعاقل لا يتنازل عن صوابه ليرضي الغالبية الخاطئة التي لا يرضيها إلا أن تشبهها، كما فعل الملك والوزير في قصة البئر الخرافية، التي تروي قصة مملكة جاءت إليها ساحرة، وألقت في بئرها تعويذة تصيب كل من يشرب منها بالجنون، فشرب الناس جميعًا إلا الملك والوزير، فثارت الرعية تُطالب بخلع الملك المجنون ووزيره!
عندها عمد الملك إلى ماء البئر فشرب منه، وناول وزيره، فاحتفل الناس بعودة الملك والوزير إلى رشديهما!
ولا يقتضي بالضرورة أن يكون كل ما في المجتمع خاطئا، فقلما يوجد مجتمع تكون كل قيمه فاسدة، والحل هنا ليس بطلاق المجتمع وإنما بفعل الصواب وترك الخطأ.
والكلام عن احتمالية مرض المجتمع لا يعني أن الذي يتبنى أفكارًا مخالفة على صواب، لأنه خالف الحشد، وسلك طريقًا غير الذي سلكه الناس
يحدث أيضاً أن يكون الأفراد على خطأ، فليس كل ما لا يُعجب الفرد يقتضي ثورة، أحيانًا يحتاج الفرد علاجًا! وأحيانًا كثيرة يشذّ الأفراد عن خط المجتمع من باب خالف تُعرف، ثمة نساء ما كنا لنعرفهن لولا أن تعرّين! وثمة رجال دين ما كنا لنسمع بهم لولا فتاواهم الشاذة، هؤلاء ينطبق عليهم المثل العربي: كالبائل في بئر زمزم. وقصة المثل أن رجلًا من الأعراب توجه إلى بئر زمزم وبال فيه، فاجتمع عليه الناس ضربًا ولكمًا حتى أنقذه جنود الحرم في الرمق الأخير، ولما رفعوه إلى الأمير، قال له: قبّحك الله، ما حملكَ على هذا؟ فقال: أردتُ أن يُشار إليّ ويُقال: هذا الذي بال في بئر زمزم!
بقلم : أدهم شرقاوي