+ A
A -
أستفيد حاليا من عطلة عشرة أيام بدون راتب. فتحتُ هاتفي المغلق في حدود الرابعة والنصف مساءً. تلقيتُ رسائل قصيرة، تَلَتْها لاحقا واحدة استوقَفَتْنِي إذ آلَمَتْنِي، فأهم جملة في الخطاب كانت من باب الاحتجاج على غيابي: «تسهرين الليل وتنامين النهار»، كأني امرأة عابثة بالوقت.
لِنَفْرضْ أن الأصابعَ التي كَتَبَتْها لا تَعْلَم (وهي تَعْلَم) شيئا عن طبيعة عملي واهتماماتي والتزاماتي ومملكة الحرف التي يَكُونُها ليلي وتَقَلُّبات قلبي في ليلٍ ما أدراك.. هل يعقل أن أنام إلى غاية الرابعة والنصف؟! لستُ أميرة مُدَلَّلة، كما أني لا أُقِيمُ في فندق، وبَيْتٌ بدون خادمة معناه أن سيداتِ البيت هُنَّ الخادمات، وأنا المرأة الوحيدة بعد أُمِّي.. ويَشْهَدُ المطبخُ والبيتُ ومستحضراتُ التنظيف كَمْ مرة جَفَّفْتُ الصابون في ثيابي وتركتُ إبريقَ الشاي يفيض والأكلَ يَحْتَرِقُ لأُلْقِيَ القَبْضَ على فكرةٍ هاربةٍ أو أسمحَ لِغَيْمَة الإلهام أن تستقرَّ عند أقرب ورقةٍ وقَلَمٍ أو هاتفٍ لأَحْلبَها (الغيمة) قبل أن تَجِفَّ أو تطير.
اليوم الأخير استيقظتُ في وقتٍ مبكر نسبيا، لعدة أسباب، أهمها زيارة شخص مُقَرَّب في المستشفى له مَعَزَّةٌ خاصةٌ، وقد أجرى عمليةً، وَازَتْها انشغالات أخرى في مقدمتها البحث عن طريق إلى طبيب آخر يفهم في تعديل نبضي الذي تحول اضطرابُه مؤخرا إلى ذَبْحِ سكاكين حتى فوجئْتُ أني كِدتُ أُسْقِطُ من يدي رضيعةَ أخي وأنا أعانقها في آخر زيارة لهم..
ثلاثة أطباء زرتُهم مرارا لتشخيص الحالة قالوا: التوتر. قلتُ لهم: لا أعرف كيف أنام في الوقت الذي أريد، لا أعرف كيف آكل، خسرتُ وزنا ولا أعرف كيف أسترجعه، يَرُدُّون: لحظة. بعد قياس الطول والوزن يقولون:../.. مناسب، مثالي. أَسْأَلُ: طيب ماذا أفعل في حالة ما إذا تباطأ النبضُ إلى الدرجة الصِّفْر بعد السرعة الجنونية؟! يُجِيبُ أَحَدُهم: شيء طبيعي بعد شدة الخفقان أن ينخفض ضغطُ الدم.
كيف لا أُعْرِبُ عن قَلَقِي؟!
ما ذَكَرْتُه لا يَكاد يُذْكَرُ من بحر هَمِّي في حياةٍ لم تَعُدْ تُغريني بالإقبال عليها. لذلك أبحث في كل مرة عن سبب للبقاء بعد أن قرفْتُ من الأسباب التي يتعلقُ الخلقُ بحبالها. زهدْتُ في رحيق الزهور، زهدْتُ في عسل النحل، كُلُّ شيءٍ فَقَدَ طَعْمَه، كُلُّ شيءٍ فَقَدَ رائحتَه.
رَقْم تافِه أهداني عُلبةَ حلوى فاخرة، رشقتُه بنظرة نارية، ومضيتُ ألتمس طريقَ الحكمة الضائعة في بَحْرِ جَهْلِه بأصناف النساء. دفعْتُ بابَ الرياض. أَلْقَيْتُ التحيةَ على من تَعَوَّدُوا على رؤيتي. قطعْتُ مسافةَ الطريق الذي يخترق حديقةً جميلة تُزَيِّنُها نافورة. ولجْتُ من البوابة الزجاجية إلى المدخل الرئيسي ثم صعدتُ السُّلَّمَ. قصدتُ الغرفةَ رقم وكُلِّي شَوْقٌ إلى الاغتسال بفَيْضِ إشراقِ مُحَيَّا صديقتي التي تَكْبرني بأربعين سنة. هل أخطأتُ الغرفةَ؟! الغُرَفُ متشابهة من حيث النظافة والتنظيم والأناقة وأصوات أجهزة التلفاز التي تُشَجِّعُك على المشاهَدة. لا! هي ليسَتْ هنا! تَسَلَّلْتُ إلى الغرفة القريبة. دون جدوى. تَصَفَّحْتُ الغُرَفَ المجاوِرةَ. سألْتُ زميلةً لها: أين هي؟! صَدَمَتْنِي وسَرَّتني في آن. صديقتي رَحَلَتْ.. إلى ذويها. المياه عادت إلى مجاريها.
تَذَكَّرْتُ كيف قادتني قدماي أول مرة إلى ذلك العالَم المنسي من ذاكرة الحياة فتكاد تُلْغِيه من حساباتكَ وكأنه غير ملتصِق بكَوْكَبِكَ. قَبَّلْتُ أيديهن، جلستُ بينهن، ما أن طبطبْتُ بلساني على ما قرأْتُه في عينيها من وجع حتى بَكَتْ، دموعُها نزلَتْ بلسان فرنسي عربي فصيح، ولا أُحَدِّثك عن ثقافتها وخِبراتها ووعيها الديني الإنساني بعد أن صِرْنَا صديقتين. لؤلؤة! لؤلؤة في زمنٍ حَلَزُوني لا يميز بين اللُّبّ والقِشْر! وأَعْرَبَتْ عن قَلَقِها..
قُلوبٌ تَحْتَرِقُ أنتَ لِأَجْلِها كشمعةٍ حتى لا تَقْضِي هي عُمْرَها تَلْعَنُ الظلامَ.. قُلوبٌ تَذُوبُ كشمعةٍ، ويَحْجُبُكَ عن رؤيتِها الظلامُ.. وقُلوبٌ تُطْفِئُ الشمعةَ حتى يَأْكُلَك الظلامُ..
نَافِذَةُ الرُّوح:
«الْمُرُوءَةُ أن يَفْتَحوا عينيّ على الحياةِ لا أن يَسرقوا مني الحياةَ».
copy short url   نسخ
24/11/2016
2351