((ما أكثر الكُتَّاب والشعراء الذين جَسَّدُوا قِيَماً إنسانية سامية في صورةِ حبيبةٍ غالية! إنه أَرَقّ وأَرْقَى ما يَصِلُ إليه قَلَمُ كاتبٍ متمكن))
صباح الحَرْف.. مساء الحَرْف..
نعود إلى الوتريات، وسمير البرغوثي الحَرْف في ليلِ الكلماتِ، لليل عيون تُضيء، وضوءُ الحَرْف يُسْعِفُكَ لِتُشَكِّلَ به ما شِئْتَ من مصابيح وشموع..
قَبْلَ الحبيبات وحقيبة الذكريات، وَجَبَ علينا الإشادة بذكاءِ عاشقٍ يَكُونُه الكاتبُ لقارئٍ لا يقلّ ذكاءً. حقيقةً عَوَّدَنا الرجُلُ على ذكائه الملموس في كتاباته وخَطِّ تفكيره وخُطَّةِ تعبيره. لكن أن يكون ذكيا في تناوُل تيمة العشق فهذا ما قد يَفُوتُك عزيزي. ألا تلاحظ أن قَلَمَه يشهدُ له بذكاءٍ جَعَلَه يُفَصِّلُ من حريرِ العشق قميصَ كلماتٍ ناعما يَتْرُكُ للقارئ حريةَ فَتْحِ أزرارِه للتسلل إلى ما خَفِيَ؟!:
«اجتاحني إعصاركِ وأنا أبحث عنكِ سبيةً في قصر الخليفة» (وتريات).
سمير يَبْنِي من قاموس العشق هَرَماً فنيا تَعشقُه العينُ ويَنْثالُ له الإحساسُ، يَكفيكَ أن تُغمِضَ عينيك وتَهيم في بحر التصوير الفني الذي يَرسمُه لك بريشة قَلَمِه الذَّوَّاق لِيُبَلِّلَكَ ويُغْرِقَكَ دون أن يَجودَ عليك بقطرةٍ تُرَطِّبُ حَلْقَ فُضُولِك إلى معرفة مَنْ تكون صاحبة الجلالة التي رشَّت كاتبَنا رَشَّاتٍ من عطرِ الحُبّ وفَتَحَتْ عينيْ القلب وأيقظَتْ مارِدَ الرغبةِ في مُغامرة العشق لِمَنْ يفقهُ لغةَ العشق:
«ملأْتُ قيثارةَ الشوق إليها وكان لا بد للمكبوت من فيضان» (وتريات).
إنهن صاحبات الجلالة اللواتي تَوَّجَهُنَّ، ووَضَع بين أيديهن مفاتيحَ إمارةِ قلبِه.. لا غرابة بعد هذا أن يَعْتَلَّ قلبُه، والنتيجةُ عمليةُ قَلْبٍ مفتوح ستر الله ونجحَتْ قبل أن يُدْرِكَ السلطان الصباحَ وتَسْكُت شهرزاد الحُبّ عن الكلام المباح.
فهل يكون البرغوتي قد وجد في الحبيبة بديلا للسيجارة التي طَلَّقُوه منها بعد أن حَمَلَتْه إلى مشرط جرّاحِ القلب وقلبُه (الكاتب) ما فتئ يُعْرِبُ عن قَلَقِه؟!:
«تَخَلَّصْ من السيجارة واعْشَقْ دونها ما تشاء من (التَّاءِ) تَنْجُ» (البرغوثي، تَهَرَّبْتُ من مشرط الجراحين ثلاث سنوات.. ولكن).
هل كان الكاتبُ مستجيبا لدعوة طبيبته كورنيلا، أم أنه قَبْل زيارتها عرف طريقَه إلى أكثر من تاءٍ عَلَّمَتْهُ كيف يَنْظم الشِّعرَ، كيف تَرَبُّعُ التاءِ على العَرش يكون، كيف يَنْشَأُ للقلب فَمٌ وعيون، وكيف يَتِمُّ إطلاقُ سَراح عصفور الروح المسجون؟!:
«قلتُ يا دكتورة أنتِ كُنْتِ تتعاملين مع قلبٍ حَسَّاس وهو حين تُلامِسُه أنامل إنسانية يَظَلُّ يَكتُبُ شِعراً.. فقامتْ وفتحَتْ بابَ مكتبها وقالتْ للممرضة نادي زوجتَه... وقالتْ لها.. هنيئا لكِ فزوجكِ عاد يكتب شِعراً» (البرغوثي، ليلة القبض على قلبي).
أكان على طبيبته أن تترك حصادَ تحصيلِها الطبي جانبا وتَكْشف عليه بعِلم أهلِ العشق والهوى وهو صاحبُ قَلْب عِلَّتُهُ الحُبّ؟! كيف لا يَتَهالكُ قلبُه الذي ينحني لمرور مَنْ عَبَرْنَهُ وأَشْعَلْنَ فيه نارَ البَوْح، بوح شاعرٍ خَبَرَ بُحورَ الشِّعرِ وبِحارَ العاطفة التي أَلْقَتْ به فيها مَنْ كانت تَسكنُ القلبَ في منتصف ليلِ الحُبّ؟! لذلك عاد الكاتب مُحَمَّلاً باللآلئ التي نادرا ما تَقَعُ في يَدِ شاعرٍ من الهواة:
«أشتاقُ لعينيكِ عند المساءِ لا تسأليني لماذا فالبحرُ أَجْمَل ما يَكونُ عند النساء» (وتريات).
فهل من العدل ألاَّ يتغزَّلَ بمن وَفَّرَتْ له الجَوَّ الصّحّي لِيَكْتُبَ مثل هذا الإبداع، رسالة من تحت ماءِ بَحْرِ عينيها؟! أليس من الجحود أن يُنْكِرَ فَضْلَ مَنْ لها الفضلُ في صَقْلِ موهبتِه الشعرية التي حَجبَها عنا؟!
إنها الْمُلْهِمَة التي فجَّرَتْ قلبَه عشقا ولسانَه نُطْقاً عن الهوى. بِدونها لا مِساحَة تَكفي لكتابة هذا الإبداع ولا مَسافَة تَكفي للتأمل واعتصارِ عُيون القَلَم. بدونها لن يتفجَّرَ العاشقُ في صمتٍ بَوْحاً تنحني له عُيون قُرَّائِه إعجابا وتقديرا.
الحبيبة تَزْرَعُ وُرودَ الحُبِّ وتُجْرَحُ، تُشْعِلُ فَتيلَ الحُبِّ وتَحْترقُ به، وانْظُروا مَنْ يَقطفُ الوردَ وينتفِعُ بالضَّوْعِ والضَّوءِ: إنهم مُرِيدُو ومُحِبُّو قَلَمِ وأَنفاس صَوْتِ هذه الصومعةِ المضيئةِ التي تُسَمَّى الكاتب، الحَيِيّ الذي يختفي خلف جِدارِ المراوَغَةِ والتمويه حتى لا يَسْمَحَ لِبَوْحِه بأن يَقُولَ كُلَّ شيء.
الحبيبةُ تَضْرِبُ بِيَدٍ مِن حديد على زمن الكاتب لِتُعَلِّمَه فَنَّ الصُّمود في وجهه. الحبيبةُ الراحلةُ مازالتْ ذِكْراها مَصْلُوبَةً على سُورِ القَلبِ تَشْهَدُ على خَيْمَتِها رسائل أُرْسِلَتْ إليها في زمن سابق، وما «وتريات نبضية» سِوى وثيقة حُبٍّ تُؤَرِّخُ مسارَ عاشقٍ تَرَسَّخَتْ فيه جيناتُ الرجُلِ الفلسطيني النابض بالحُبّ والحنان والدِّفء..
فلسطين أمُّه الأرض تَشَبَّعَ أبناؤُها بِقِيَمِ الصُّمود، ومنها الصُّمودُ في الحُبّ، سواء أكان حُبَّ المرأةِ الأرض أم حُبَّ المرأةِ الأنثى.
لِنَفْرِضْ أنها رسائل حقيقية وليستْ مُتَخَيَّلاً تَفْرِضُهُ اللحظةُ الشعرية كما يقول الشاهدُ:
«اجتاحَني اليومَ إعصارُ الشوقِ إلى لحظةِ انصهارِنا هناك في الغابةِ السرابيةِ فوق تلَّةِ العشقِ البنفسجية» (وتريات).

بقلم : د. سعاد درير