بطبيعة الحال، وكما جرت الأعراف، لا نحتفل بسقوط الآخرين ولا نتشفى في من خرج بخفي حنين، أو تعثر في مشواره وغادر من الباب الخلفي «مكتئب وحزين» !
لكن تسارع الأحداث بوتيرة مشبوهة، وتعمّد بعض الأطراف إفساد كل الجهود التي تبذل في هذه البطولة من أجل أهداف مجهولة.. والعمل بكل أدواته على نشر مفاهيم مغلوطة، يجعل التحكم بمشاعر السرور بكبح جماح المغرور أمرا غير قابل للسيطرة، بل من أصعب الأمور!
فلم يسبق أن قوبل خروج منتخب من كأس العالم بفرحة عارمة وسعادة غامرة وصلت لحد «الشماتة» كما احتفل الجمهور العربي والإسلامي وأنصار الأخلاق والقيم الرفيعة بعد الإعلان رسمياً عن خروج المنتخب الألماني من مونديال قطر 2022 من الدور الأول، يجر أذيال الخيبة والفشل مطأطئاً رأسه ومغطياً وجهه، وهو الذي بدأ البطولة مغلقاً فمه، لكن على ما يبدو أنه نسي أن يغلق مرماه.. فاهتزت شباكه خمس مرات ما بين فوز وتعادل وخسارة، لتصبح في نهاية المطاف حصيلة متواضعة، لا تبقيه مع الكبار، بل حولته للمطار.. ليعود إلى وطنه بمشاركة خجولة مضافاً لها العار..!
لماذا توحدت هذه المشاعر ضد منتخب كان الفريق المفضل للكثيرين، بتاريخه الحافل وجمهوره الغفير حول العالم، لما عرف عن «المانشافت» من أداء «رجولي»، وإنجازات قارية ودولية، واشتهر بنجومه الكبار على مدار عقود من الزمن، والذين مازالت أسماؤهم رنانة في عالم كرة القدم على مر الأجيال، ومنهم بيكنباور ورومينيجه ولوثر ماتيوس ورودي فولر وميروسلاف كلوزه ومايكل بالاك وتوماس مولر وغيرهم الكثير..؟
السبب أن هذا المنتخب الملقب بـ «الماكينات» - وهي دليل القوة والصلابة - بدأ «ينحرف» عن مساره الذي أحبه الناس فيه، و«يشذ» عن القاعدة المتفق عليها بين عموم الرياضيين، وأقحم نفسه في قضايا «مخجلة»، ليجد نفسه يدافع عن عدة ألوان، ونسي مهمته الأساسية وهي الدفاع عن ألوان علم بلاده !
ألمانيا دخلت هذا المونديال «مشوشة»، وسعت بإعلامها وبعض مسؤوليها لإقحام أفكار وشعارات على بطولة لكرة القدم تنص قوانينها صراحة على عدم الترويج لأية مظاهر خارجة عن إطار اللعبة، مما أفقد الفريق شعبيته وجماهيريته، والأنكى من ذلك أن تقوم وزيرة الداخلية الألمانية المعنية بحماية القانون في بلادها بالتحايل على قوانين الرياضة واتباع طريقة غير مهنية أو دبلوماسية، وكذلك فعلت وزيرة الخارجية البلجيكية، والاثنتان ودعتا معاً بشعاراتهما.. فلا كسبا في الملعب ولا خارجه ! وربح المونديال وقطر والفيفا وانتصرت كرة القدم.
غريب أمر بعض الدول الأوروبية التي حاولت بكل أدواتها التشويش على المونديال عبر إقحام عدد من الملفات غير الرياضية، في مخالفة صريحة لقوانين اللعبة، ومحاولة اختراق فاشلة للقيم والأخلاق، وكذلك القواعد التنظيمية للدولة المستضيفة، متشدقين بالحرية، وهم بعيدون عنها، وهدفهم نشر سلوكيات خاطئة في مجتمعات محافظة وعلى الفطرة السليمة، فكانت نهايتهم أليمة !
لاعبو ألمانيا الذين بدأوا مغلقين أفواههم في إشارة لحرية التعبير.. هل أخذوا برأي اللاعبين المسلمين الذين يلعبون معهم بنفس الفريق إن كانوا يوافقون على الترويج للمثلية، التي ترفضها كل الأديان ؟!
هل تحملت ألمانيا تصرف اللاعب الدولي مسعود أوزيل عندما التقط صورتين، الأولى مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والثانية مع الكاتب والسياسي الألماني يورجن تودنهوفر.. إذ إنها شنت عليه هجوماً قوياً وتناست كل ما قدمه لألمانيا ؟!
وحينها أطلق أوزيل تصريحه التاريخي الذي يدل على العنصرية والطبقية في تعاملهم معه، عندما قال: عندما أفوز فأنا ألماني وعندما أخسر فأنا مهاجر !!
وعموما.. بعض المتهورين من الجمهور الألماني لم يحتملوا رؤية صورة أوزيل يحملها بعض المشجعين في استاد البيت.. فأين تقبل الرأي الآخر ؟
والسؤال الذي يطرح نفسه:
هل تقوى ألمانيا وأوروبا على مواجهة كل الشعارات في حال تم اختراق قواعد اللعبة وسمح للمتفرجين برفع اليافطات الفكرية والحزبية، ولبس القمصان المكتوب عليها دلالات سياسية وإنسانية ؟
هل ستتحمل وجود شعارات للنازية أو لحقوق المهاجرين واللاجئين والعمال، أو لاضطهاد المرأة المسلمة ومنعها من لبسها المحتشم، أو تسليط الضوء على الأقليات والدول المحتلة وغيرها..؟!
وهل ستصبر المدرجات على هذه الإشارات الساخنة دون أن تؤدي إلى توترات وتخرج اللعبة من مضمونها التنافسي الشريف إلى مسار عدواني وعنيف ؟
أم إنها تريد أن تتعامل مع العالم بفوقية وتفرض عليهم عاداتها وتقاليدها ولا تقبل المعاملة بالمثل.. ؟!
تعالوا يا أوروبا نحتكم لنقطة سواء..
قطر رحبت بالجميع من كل الجنسيات والأجناس، ولم تمنع أحداً من الحضور والاستمتاع بأجواء المونديال.. واحتوت جميع الثقافات المتنوعة والملتزمة بالنظام العام.. أما مسألة الترويج والإشهار والاستفزاز فهذه مرفوضة بحكم قوانين الفيفا والدولة المنظمة..
وما يثار هو بهدف التشويش والاختراق، ولكن- ولله الحمد- فشلت محاولاتهم البائسة، وسجل النصف الأول من المونديال نسخة رهيبة، بتنظيمها ومبارياتها وجماهيرها وإعلامها وفعالياتها.
وأعجبني تصرف بلادي بالسماح بتزويد الغاز لألمانيا بعد أن وافقت على مدة الـ 15 عاماً، ولم تخلط الملفات كما يفعل غيرها.. فهي لا تسيّس الاقتصاد ولا تشوّه الرياضة، وسجلها معروف باحترام العقود والاتفاقيات، كما أن مثل هذه الصفقات تستفيد منها الشعوب.
كما يجب أن نأخذ في الاعتبار أن ألمانيا دولة كبرى، وفيها تنوع ثقافي وسياسي، ولا يمثلها رأي فئوي، وكذلك لها مواقف جيدة في الفترة الماضية في ملفات أخرى، وبالتالي من الضروري إبقاء الخلاف في حدوده الطبيعية.
أرض السلام والحوار
يقول السيناتور بوب مينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، إن قطر ستكون أقوى من ذي قبل، وسوف تصمد أمام الانتقادات، وسوف ترد، والأهم هنا ليس ما تقوله الصحافة، ولكن الانطباع الجيد الذي تتركه زيارة الناس إلى قطر.
انطباعات الناس لمسناها عن قرب، وقد رأينا مشجعي كرة القدم يعيشون تجربة فريدة خلال هذا المونديال الذي أجمعوا على أنه النسخة الأكثر تميزا على الإطلاق في عالم كرة القدم، وسواء الذين حضروا المباريات أو شاركوا في الفعاليات فإنهم جميعا عاشوا تجربة من التفاعل المجتمعي لا تنسى، وأكبر دليل على نجاح البطولة أنها حطمت الأرقام القياسية من حيث بيع التذاكر والحضور الجماهيري.. من المدرجات وأمام الشاشات.
آخر نقطة..
على كل من يحاول أن يخرج اللعبة الأجمل عن مسارها بتلفيق القصص الكاذبة والترويج للأفكار الشاذة أن يتوقف عن هذه الأمور المخجلة، ويطالع الحقائق الساطعة في سماء قطر، وما وفرته للفرق والزائرين والمشجعين من تسهيلات وخدمات ومنشآت هي الأضخم والأفخم، وفعاليات جماهيرية وثقافية لخوض تجربة للحوار الإنساني بين الشعوب، في أجواء تسودها المحبة والاحترام.. والمودة والسلام.
محمد حمد المري - رئيس التحرير المسؤول