+ A
A -

وأنا في طريقي ماشياً لحي هارلم في رحلة نيويورك، كان لافتاً للنظر أن أرى العديد من الجنود والمجندات المسلمات يصطفون ضمن شرطة نيويورك، لتأمين أول ماراثون كبير بعد موسم كوفيد.

ربما مثّلت تلك الدقائق التي أمشي فيها بجانب مسار ماراثون نيويورك، لحظة تأمل مهمة، في ازدحام المشجعين من ذوي المتسابقين وأصدقائهم، لتحية وتحفيز رفاقهم، وكيف كانت خريطة الوجوه تُشير إلى تنوع شعب نيويورك، وهي دلالة رئيسية في قصتنا، عن القراءات المختلفة لمشهد هذه المدينة، وبالذات الشعب التعددي الذي يقطنها، وهناك في هذا المهرجان وفي مساحات أخرى، تبرز الأُلفة والتحية العفوية.

ترمق بكل تأكيد حَزَن الوجوه، وقلق بعضها، والعابرون في كل ركن من (الهوم لس) المشردين في ضفاف المدينة، وتبرز لك أيضاً قي بعض الأركان، آثار تعاطي المخدرات عليهم وعلى غيرهم، وتلحظ هنا التشريعات الموسعة، للسماح بتعاطي أنواع وكميات منه، صدرت في أميركا وكندا وبعض الدول الأوروبية.

وتلحظ في الضفة الأخرى من جدران الشوارع، حشدا كبيرا للترويج للمثلية، تكاد تدخل شعاراتها بين ملابسك، وتعبر عبر أقواسها التي لم تستأذنك.

وفي كل المساجد التي صليت فيها، وجدت من رجال الأمن الخاص، أي حرس المباني والشركات والمحلات، حشدا كبيرا من المسلمين، يغشون المساجد لأداء صلواتهم، فتساءلت لماذا لم تسقط الثقة فيهم، وخاصةً عند هذا السوق الرأسمالي، فمنذ عملية 11 أيلول /‏ سبتمبر الإرهابية في مانهاتن نيويورك، والإسلاموفوبيا لا تهدأ في شيطنة المسلمين.

وبرز لدي هنا أن هذا السوق الرأسمالي، الذي يخشى على أمواله ومصالحه، وكما يقال رأس المال جبان، لم يعد يصدق تلك الحملة، فتجربته مع المسلمين ها نحن نلحظ نتائجها، وهو دليل عملي على أن المسلمين (الصالحين) مؤتمنون على سلامة الناس ومبانيهم، بناءً على سلوكهم المشهود، وأن صلاتهم ونسكهم تنهاهم عن خرق الأمانة.

والأمر الآخر أن آثار الحروب الاستعمارية والوحشية للغرب، التي استدعت إرهاب القاعدة، أو داعش بعد ذلك، كان ضمن سياق تلك الصراعات، وليست صفةً يُدمغ بها المسلمون، وهذا بالطبع لا يلغي المآسي الأخرى في طباع بعض المسلمين ولا صراعاتهم المؤسفة المتعددة، وعدم تمثلهم بوصايا القرآن الكريم وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، في حسن الخُلق والتعاون على البر والتقوى.

غير أن الأمان فيهم علامة حاضرة مشهودة، ترد على حرب الدعاية المضللة، والناس هنا في نيويورك بينهم جواز علاقة وتنقل مشترك، مسيحيين ويهود ومسلمين، وملحدين وأيا كانت ملتهم، وكشكات المقاهي المتنقلة التي يعلوها كلمة (halal) حلال، يقف أمامها كل أطياف شعب نيويورك، وفي الجانب الآخر لبرج ترامب، وشارع وول ستريت، هناك ضجيج جميل لأطفال المساجد، الذين تختلط ألوانهم وأعراقهم، توحدهم بيوت الله، أبيضهم وأسودهم وأحمرهم، عربا وأفارقة وآسيويين ولاتينيين جنوبيين، ومناطق أخرى جمعتهم مملكة القرآن.

وعلى حدود حي هارلم في منطقة (Bronx) كانت صلاة الفجر حاشدة في المسجد المجاور، كما أن صلاة العشاء كانت مزدحمة بالأطفال، لحضور الدروس القرآنية والعربية، تشعر هنا بأمرٍ غريب، وهو أن مركزية الغرب التي لم تُهْمِل يوماً، حصار حاضر العالم الإسلامي، وبقاء تدفق المصالح الغربية من ثرواته، وعبر نشر القواعد العسكرية وخاصة الأميركية، هو بذاته الذي يتدفق عليه أطياف متعددة من المسلمين، وأن وصول الرسالة الإسلامية للإنسان الأميركي من أصل غربي، ما يطلق عليهم (البيض)، أضحى يتتالى في مواقع عدة داخل أميركا.

هنا لا بد أن نشير مجدداً لفوضى الصراعات، وغياب الإستراتيجيات الفكرية، أو على الأقل أهليتها الكافية لنقل المفاهيم الإسلامية إلى خطاب حضاري جامع، فالاتجاهات المتضاربة متعددة بين المسلمين، في منظماتهم ومراكزهم، ولذلك فضّل الشيخ حمزة يوسف وهو يمثل تياراً مسلماً آخر، أن يؤسس مدرسته (الزيتونة) بعيداً عن صخب هذه الصراعات.

وهذا أمر قديم سبق الصراع السياسي حول مجلس الحكماء، وتوظيفه من قبل بعض الأطراف في الخليج، والشيخ حمزة مقرب من هذا المجلس، لكن قضيته كانت كيف تصل الرسالة الإسلامية، إلى عقل الرجل الأميركي الأبيض، بنقائها ومفاهيمها الروحية والقيمية التي يتعطش لها هذا الإنسان، ولا يدركها بسهولة في خطاب المهاجرين.

كما أن الأميركيين الأفارقة، لديهم أيضاً رؤيتهم المختلفة عن المسلمين المهاجرين المتجنسين حديثاً، لكن ذلك لا يمنع من أن صعود الحضور الإسلامي ينتشر بقوة، رغم أن هناك سياسة أمنية وفكرية عُليا لاحتوائه في أميركا، لكن بعض الخطط يخترقها الواقع الذي لا يمكن السيطرة عليها، فهل تخترق الحضارة الإسلامية جدار العزل من قلب الغرب؟

مهنا الحبيل باحث عربي مستقل رئيس المركز الكندي للاستشارات الفكرية

copy short url   نسخ
04/12/2022
120