إن مراجعة مكتبة الفكر الإسلامي المعاصر اليوم، في ظل الأحداث الكبرى التي تعيشها منطقة الشرق الإسلامي، وخاصة بعد حروب الثورة المضادة ونقض الربيع العربي، توصل إلى مستوى الصدمة من حيث ضعفها وقلة عطائها، وعجزها في قضايا التجديد الضرورية ضمن لوازم فقه الشريعة الإسلامية، وثوابتها الأصلية.

لقد ذكرنا في دراسات سابقة تعيد التأصيل للفكر الإسلامي المعاصر، بحسب منهجية مدرسة أهل السنة، التي حوصرت من الغلو نهاية السبعينيات في شقيّها الفقهي والفكري، أن أحد اللوازم الكبرى لفقه الشريعة والاستخلاف الإنساني هو مساحة السَكْت في أصول الفقه، الذي تُرك، وهو تشريع في ذاته لتحقيق احتياج الخليقة في تنظيم تشريعاتها المدنية والإنسانية المتعددة، المتغيرة بالضرورة في أحوال التطور البشري لأوضاع الإنسانية المادية والحياتية والفكرية.

فكان الإشكال الرئيسي، أن مساحة هذا التجديد، تم جرّها عنوة لفقه لا يقوم أصلا على ثوابت شرعية محددة، إنما نظرات واجتهادات وفق محدودية فقه هذا الإمام المتقدم أو المستنسِخ لفقهه، أو تحت شروط العهد الجبري الذي حاصره.

وفي أجواء هذا الاضطراب، عاشت الدعوة الإسلامية المعاصرة، التي لها إيجابيات ولكن لها أخطاؤها، وحوصرت بشراسة سياسيا، فتخندقت في إطار التعبئة الدعوية المنحازة للجماعة، وليس للمجتمع المسلم المعاصر وبنائه التجديدي الثقافي.

وزاد الإشكال، أن تُعطى الرؤى الخاصة لهذا العالم أو ذاك وتلاميذه، مكانة إجماع لم ينعقد، ولا تقوم به حجة، لأن فلانا أو علاّنا من طلبة العلم أو المشايخ ادعاه لذات رأيه أو جماعته.

وهنا تتضح مرحلة الفراغ الشرس، الذي أحاط بمسيرة الفكر الإسلامي المعاصر، حراك حيوي في مساحة الفكر الإنساني ونظمه القانونية وقاعدته الفلسفية، يقابلها مكتبات تعصر التراث عصرا، لتحديد الحكم التقني التفصيلي منها على الحياة المدنية، وتنشره لقاعدتها.


وهذا لا يعني أن تراث الفقه الإسلامي عاجز، ليس هنا المقصد، بل هو تراث حيٌ ثريٌّ مليء بالكنوز ووعي الاجتهاد المتجدد، لأنه طبيعة الشريعة التي أرسلها الله، كون أن رسالة الإسلام ختمت البعث السماوي إلى الأرض، لكنّه تراث يحتاج إلى أيقونات وعي في ميدان الفكر المدني والدستوري وما يمكن أن يؤسس عليه.

وثانيا لا يلزم اليوم تطبيق نظرياته حرفياً، ولا الوقوف عندها، بل إن جزءًا رئيسا من قاعدة التشريع، يوجب تمحيص القاعدة القانونية الفكرية لحاضر العالم الإسلامي اليوم، وليس قبل 100 عام فضلا عن قرون خلت، لأن هذا النوع من الفقه، من سماته التجديد، وليس التقليد.

المقدمة الثانية في مفهوم الفكر المدني في فقه الشريعة، وحاضر العالم الإسلامي، هي أهمية رفض العرف القائل، إن أوقات النوازل والنكبات، ومحن الجماعات الإسلامية، تقتضي الصمت والترضية، وتأجيل البحث عن قواعد التفكير والنقد الثقافي المتخصص، وصناعة خلاصات الوعي الثقافي للمسلم المعاصر، الذي يقوده لخوض التجربة السياسية، والحياة المدنية بإدراك جديد.

بحجة بغي الخصوم وعدوانيتهم الشرسة، وأن المطلوب هو تجديد ملاعنة أولئك الخصوم، من أنظمة محلية أو دولية أو جماعات فكرية، وليس نقد التجربة السياسية للإسلاميين، أو البحث عن القواعد الفكرية المُعينة للتأسيس الثقافي الجديد.

فهذا العرف كارثة من كوارث مرحلة الفكر الإسلامي المعاصر، والأدهى منه العودة إلى الثقافة اليمينية الدينية المتطرفة، التي أُقحمت على الفكر الإسلامي، وتركيز جولات الصراع حول الاجتهادات الفقهية، وتشريع ملاعنة أي مخالف في الرأي وحصاره، بحجة أنه طليعةٌ للمشروع الغربي.



بقلم : مهنا الحبيل