«هل لهذه الحبيبةِ الحَلُوَّةِ حَيِّزٌ من الوجود؟! ليس بالضرورة دائماً».
صباح الحَرْف.. مساء الحَرْف..
امتداداً للسؤال السابق، ما الذي يَجْعَلُ رَجُلاً يَحتفظُ برسائل قديمةٍ يُسَيِّجُ بها ضَيْعَةَ عشقِه لِمَنْ جاهدَتْ واجتهدَتْ لتجديد دِماءِ أرضِ قلبِه التي أَبَتْ إلا أَنْ تَشْمخ أشجارُها، وفي شموخِها شموخُ بَطَلِ كفاحِ رحلةِ الحُبِّ.
قد تُخَمِّنُ في أن المرسَل إليها هي الحبيبة الأولى والأخيرة معشوقة القلب معبودة الجماهير فلسطين الأُمّ الوطن التي عَلَّقَتْ تَعَبَها على مشجب عينيه! ويَطيبُ لي أن أَقْطَعَ حَبْلَ تخمينك بهذا:
«أَكتبُ لكِ من غزة ولهيب المعركة يشعلني شوقا إليك» (وتريات).
هل يعقل أن يَكتبَ الكاتبُ إلى فلسطين وهو في غزة قلب فلسطين في حضنِ صَدْرِها يُجَفِّفُ أشواقَه؟!
إنه يَكتبُ من زاوية فوقية ناظراً إلى الفضاء تحته حتى لا يَفوتَه مَشْهَدٌ مُتَّخِذاً من مقعده على الطائرة محطةً للملمة المرئي المحسوس وإعادة كتابته على اعتبار أن الواقعَ المعيش كتابةٌ أولى:
«هل انتهى زمن احترام ركوب الطائرة وبات سفر المدير والخفير بنفس الملابس تي شيرت وجينز ممزق عن الساقين يظهر لون اللحم للجنسين..» (وتريات).
الكاتب بذكائه يتحايل عليكَ خشيةَ أن يَكشفَ أوراقَه دفعة واحدة. وربما مَرَدُّ هذا إلى محاولة التستر على مَن يُسِرُّ إليها ببوحه عَلَناً. يَكفيكَ المقارنة بين وتريات 22 يوليو 2015 ووتريات 13 سبتمبر 2016. هناك كلام حُذِفَ، وآخر أُضِيفَ.. فلماذا التعديل إن لم تَكُنْ هناك قصدية للتمويهِ وطَمْسِ معالِمِ المعنى السابق؟!
الكاتبُ مَشَّطَ بقدميه عواصمَ الأرض وهو يتنقل كالفراشة في بستان؟! وعلى امتداد الأماكن والعواصم التي ذكرها (غزة، بيروت، بغداد، الغابة، القصر..) هل يُوَجِّهُنا إلى علاماتٍ قد يُفْلِحُ حَلُّ تشفيرِها في الوقوف عند هوية الحبيبات؟!
انظروا كيف يَبلغُ الذوبان بالعاشق مَبْلَغَ الهذيان، ليس الهذيان حُمّى، إنما الهذيان حُبّاً، وتلك درجة قُصْوَى يرتقيها عاشقٌ يَدبُّ صعودا على سُلَّم العشق.
عَيْنَا الحبيبةِ بَحْرٌ، والإبحارُ في محيط العينين فَنٌّ ومَهارةٌ بها يُجَدِّدُ خلاياه:
«منذ التقيتكِ وأنتِ تدخلين بسلاسة إلى أوردتي فتنعشين شرياني» (وتريات).
غيابُها (الحبيبة) خَواء، وحضورُها امتلاء.. القلبُ يظمأ إلى ماءِ محياها، والروحٌ تشغف للقياها، والعينُ ترغب في تَصَفُّحِها سطراً سطراً:
«أَشْعُرُ بخواء وجوع ولهفة ورغبة وشغف للقاء» (وتريات).
رحيلُها بَرْدٌ لا يُبَدِّدُه سوى دفءِ عينيها، ورعدٌ وأمطارٌ يُفسدان مَوسمَ القطف، رحيلُها ظلمات يمتد فيها العمى من البصر إلى البصيرة، وها هو الكاتبُ يمضي بسرعةِ الضوء مُتَأَهِّباً لِفَتْحِ بابِ ذراعيه كلما تراءى له طيفُها يَدْنُو.. يا له من تصوير فَنِّي بديع!
ولْنَنْظُرْ إلى العنوان «ما أكثر حبيباتك سيدي»، في نبضةٍ ما، ألا يُشَجِّعُ على تأكيد وجود الحبيبات، بل يكاد يكون اعترافاً مسبقاً من الكاتب الذي دَبَّجَ به مساحةَ العنوان حتى وإن كان رأياً لقارئٍ فَنَّان؟!
نتحدث إلى الآن وكأنَّ الحُبَّ جريمة، خطيئة.. ونتجاهل حقيقةَ أن الإنسانَ بدون حُبٍّ يكاد يكون ميتاً. لا يهمُّنا مَن تكون الحبيبة، لكن يهمُّنا بالتأكيد ماذا أَعْطَت الحبيبةُ للعاشق حتى ينبض بكل هذا الجمال.
الحُب يُعطيك الإحساسَ بالحياة، يُريكَ اللونَ الوردي الذي كثيراً ما تفتقده في لوحةِ حياتك، يُصَوِّرُ لك قوسَ قُزح دون غيوم، يُعَدِّلُ نبضَ قلبِكَ بالشكل الذي يُعيد إليك لياقتَك، يجعل عصفورَ قلبك يَصْدح بلحن الحُبِّ، يجعل مُحَيَّاك يُشْرِقُ، ويجعل عينيك الخجولتين تقولان كُلَّ شيء، تكفي قراءةٌ في النظرة لينحني لكَ العارفون بأحوال الحُبّ.
مفردات عاشقة تُسَيِّجُ لغةَ الكاتب العاشق وتَفْضَحُ ما خَبَّأَه. والحبيبةُ «X» محظوظة، كيف لا وهي لصيقة بالْمُتَيَّم الذي لا يرى سِوَاها ولا يُطيقُ نَواها. هي الدفء والماء والهواء. هي الزمن والمكان والإنسان. لها يَفْتَرِشُ عينيه، وفي عينيه تسقطُ عُروش النساء سواها. أليس هذا هو الوفاء الذي تبحث عنه المرأةُ؟!
«منذ أن غادرت وأنتِ معي في السيارة في الطيارة في الشارع في أوراقي في أزرار معطفي» (وتريات).
رسائل العشاق تُؤَرِّخُ أقوى لحظات الحُبّ الذي كانَ، وتَحلبُ ذكرى الفنانة التي ترسم بحُضُورها لوحةَ عشقٍ فاتنةً يُزَيِّنُ بها العاشقُ غُرفةَ حياتِه.
مِنْ أين كان لنا أن نَعْرِفَ ما يَكُونُه عاشقٌ بِرِقَّةِ وسعَةِ قلبِ الكاتب لو لم تَفْضَحْه رسائله المضغوطة في «وتريات نبضية» إن كانت رسالةً حقيقية؟! من أين كان لنا أن نزهو انتصاراً لجمال قصيدةِ بَوْحِ وترياتِه لو لم تَخْتَبِرْهُ الحياةُ بنارِ العشق؟! من أين كان لَهُ أن تَسْتَدْرِجَهُ الكتابةُ إلى هذا الرُّقي والذَّوْقِ الرفيع لو لم يَنْحَنِ لِمُرور حبيباتِه؟!..
الحُبُّ مَنْجَمٌ يُضَاهِي فيه البَوْحُ سبيكةَ ذَهَبٍ تَصْنَعُ منها قلادةً لِتُزَيِّنَ عُنُقَ الحبيبةِ، فإذا بالحبيبةِ تَصْنَعُ مِن دِفئِكَ وحنانِكَ وحُبِّكَ لها تاجَ أَدَبٍ وحِكْمَةٍ تُتَوِّجُ به رأسَ كتابتِكَ، فإذا بالتاج كُؤوس راحٍ يَسْكبها الكاتبُ لقُرَّائِهِ حرفاً حرفا، يَتَذَوَّقونها، يُمَجِّدُونَها، يَتَيَمَّنُونَ بها، يَحْلِفُون بِكَ وبِهَا، يَنْتَشُونَ ويترنَّحون كما يَتَرَنَّحُ طائرٌ يَرْقُصُ على حبل السماء ويُمْطِرُ أنثاه غِناءً إيذاناً بموسمِ الحُبِّ، والحُبُّ ما يَطرَبُ له الصغيرُ والكبيرُ.
بالحُبِّ تَصْنَعُ ما يُشْبِهُ المعجزةَ، وتُؤَسِّسُ مَجْدَك الأدبي، وترتقي بذائقتك الفنية.. وبدون حُبٍّ تموت أنتَ كشجرةٍ واقفةٍ بدون أنفاس تُحْيِي الإحساس.
رسائل الحُبّ مواويل يُتَرْجِمُ حكايتَها فَمُ فلاَّحٍ عاشقٍ يخلو إلى نفسه في جنح الليل ليشكو للنجوم في حضرةِ قاضيها الْمُقْمِرِ هَمَّه وشُجونَه، ورصيدُه كلمةُ آه.. رسائل الحُبِّ مَواويل تُسافر على ظهر السحاب..
التَّضَرُّع إلى الله توسلاً وطمعاً في حفظ من تَتُوقُ العينان إلى عناقها أضعفُ الإيمان بدينِ القلب الذي فَجَّرَتْ فيه كُلَّ هذه المعاني مَنْ جَعَلَتْ شمعةَ العشق تتوهج في خيمةِ ذاتِ الكاتب ووِجدانِه، فإذا بصوتِ الحُبِّ يرتفع شِعراً لِيُضِيءَ صَوْمَعَةَ قلبِه:
«يا الله أَنْقِذْنِي كي أرى وجهَ حبيبتي» (وتريات). هكذا يُخَاطِبُها (حقيقةً أو مَجَازاً) في رسالته الشاعرة بِسُمُوِّ مَنْ تَدْفَعُه إلى قول ما قاله من رقيقِ الكلمات وبديع المعاني بِكُلِّ هذا الرُّقيّ والصَّخَب الرقيق الحالِم.
رسالةُ الكاتب مكتوبة بلغة الشِّعر. فهل كَتَبَها دفعةً واحدةً، أم على دفعات على امتداد أشهر/ سنوات، ثم فَكَّرَ في لملمةِ شظايا الحروف وربّات الشِّعر اللواتي أَلْهَمْنَه ما ألهمنَه في الأمس البعيد؟! لكل عاشقٍ أفروديت أو فينوس يراها بعينيه الجميلتين أَجْمَلَ امرأة في الدنيا. ولسمير فينوسُه أو أفروديتُه. فهل لهذه الحبيبةِ الحَلُوَّةِ حَيِّزٌ من الوجود؟! ليس بالضرورة دائما. فما أكثر الكُتَّاب والشعراء الذين جَسَّدوا قِيَماً إنسانية سامية في صورةِ حبيبةٍ غالية، ومنهم الرقيق إيلوار (عاشق غالا) وهو يَتَغَزَّلُ في قصيدةٍ بالحرية! إنه أَرَقّ وأَرْقَى ما يَصِلُ إليه قَلَمُ كاتبٍ متمكن كالأستاذ سمير البرغوثي الذي جَمَعَتْهُ علاقةُ حُبٍّ بـ الوطن المضيئة كثُرَيَّا وقد عَكفَ على قراءتها مشارقة العالَم ومغاربته. لِـ «وتريات نبضية» باقة شكر وقد فَتَحَتْ لي هذه الشُّرْفَةَ الْمُضيئةَ وألْهَمَتْنِي قُطُوفَ هذه الورقة المضغوطة وأنا أُسابِقُ خيوطَ المعنى لِأَقْرَأَ مِرْآةً من مَرايا إنسانٍ إحساسُه قصيدةٌ، بَوْحُه نَبيذٌ، حَرْفُه نضالٌ، صَرخةُ احتجاجِه مِلْحٌ، ملح يُزَيِّنُ طعامَ موائدِ حُروفِه، ملح يرشق به كالحجارة إيماناً بحِسِّه الوطني والقومي والعربي المترامي على امتداد مقالاته التي لا يُشَكِّلُ فيها سِوى الهامشِ سياقُ نَصٍّ أدبي كَتَبَه صاحبُه في لحظةِ إلهامٍ فَشَعَرَ وصَوَّرَ، أما عِشْقُه الحقيقي، فمِنْ نصيب الوطن العربي خدمةً لقضاياه ونصرةً لمسلميه.
بقلم : د. سعاد درير