يأبى «مونديال العرب» - كما أطلقت عليه الدولة المستضيفة هذا اللقب، احتفاءً منها بشعوب المنطقة، ومشاركة لها في هذا الحدث العالمي الاستثنائي- إلا أن يكون للبصمة العربية حضور كبير في مجرياته، وإدهاش عظيم في منافساته، وأداء جميل في فعالياته.
فعلاوة على النجاح المذهل في المستويات الفنية لدور المجموعات والـ 16 والمباريات الممتعة بين الفرق المشاركة، وما صاحبها من حضور جماهيري فاق التوقعات، اكتظت به المدرجات والساحات ومئات الملايين أمام الشاشات، وما تحقق من أرقام جديدة، سجلت باسم هذه النسخة الخاصة جداً من عمر بطولات كأس العالم لكرة القدم.. إضافة لذلك جاءت النتائج العربية بمستوى الطموحات، وحققت معظم فرقنا المشاركة نتائج لافتة هزت أركان اللعبة، يتقدمهم أسود الأطلس الذين صالوا وجالوا وأعادوا كتابة التاريخ بطريقتهم، وحققوا السبق العربي في الوصول لدور الثمانية، في إنجاز تاريخي، زاد من قيمته وأهميته أنه جاء على حساب أحد كبار اللعبة في العالم، منتخب إسبانيا بطل العالم وأوروبا منذ زمن قريب، وصاحب الدوري الشهير، والقطبين الكبيرين برشلونه وريال مدريد.
العربي بطبعه يحن للتاريخ.. فماضيه أفضل من حاضره على مستوى العلم والمكانة والهيبة بين الأمم، وبفوز أبطال المغرب على الإسبان، عاد الكثيرون بذكرياتهم لزمن مضى عندما كانت العرب لها سطوة وسيطرة وأمجاد، ورغم أن هذا الانتصار المدوي جاء في سياق رياضي إلا أنه يؤكد حالة التعطش للتفوق والعودة للصفوف الأولى، وإن كان ذلك في ملاعب الكرة.. لذلك اعتبره البعض «يوماً من أيام العرب» ولاحت في مخيلتي مع أهازيج هذا الفوز التاريخي «الموشحة الأندلسية» التي أبدع في حياكة مفرداتها وتطريز كلماتها الشاعر لسان الدين بن الخطيب:
جادك الغيث إذا الغيث هما
يازمان الوصل بالأندلسِ
مازال.. مازال
الحلم العربي مازال قابلاً لأن يكبر ويتوسع في هذا المونديال، ويضع لنفسه مكاناً في الطليعة.
فأبطال المغرب يقدمون ملحمة وطنية على شكل مباريات كرة قدم، بروح قتالية فدائية وخلفهم حشود جماهيرية من كل الأقطار العربية والإفريقية، ومن أطاح ببلجيكا وإسبانيا وصمد في وجه كرواتيا، لن يهاب مواجهة البرتغال وإن كان خصماً لا يستهان به، وحقق هو الآخر إنجازاً رقمياً في هذا المونديال بتسجيل «نصف درزن» من الأهداف في شباك سويسرا لتكون النتيجة الأعلى في دور الـ 16 على مدار تاريخ البطولة.
ولا شك أن استمرار فريق عربي يمثل هذه المنطقة في الأدوار المتقدمة من هذه المنافسات الشرسة أعطى للبطولة رونقاً جميلاً وأبقى فعالياتها الجماهيرية في مختلف مرافقها ساخنة.. صاخبة.
العرب وآسيا
ومما يدوّن في سجلات الفيفا من هذا المونديال هي النتائج الكبيرة للعرب وآسيا، فبالإضافة لتفوق المغرب الكاسح ومشواره الناجح كانت تونس حاضرة أيضا بتعادلها مع الدنمارك العنيد وفوزها المهيب على أبطال العالم، وكذلك الحال بالنسبة للأخضر السعودي المقاتل وتفوقه على الأرجنتين بتاريخها الحافل.
وبالحديث عن اليابان وكوريا وأستراليا سنقف بكثير من الإعجاب والاحترام لما قدموه من مستويات فنية وتكتيكية، أشعرتنا أن هذه الفرق الآسيوية أصبحت في مصاف الدول الأوروبية المتطورة في اللعبة ويكفي أن نذكر فوزها على ألمانيا وإسبانيا والبرتغال والدنمارك، والتعادل مع كرواتيا والخسارة بفارق هدف من فرنسا والأرجنتين.. مما يؤكد أن القارة الصفراء بدأت تنمو وتضع لها موطئ قدم في المنافسات العالمية بدليل وصول ثلاثة منتخبات منها لدور الـ 16 لأول مرة في تاريخ البطولة.
لذلك لم نعد نستغرب من هذه النتائج المتطورة، كما بدأنا في الوقت نفسه نتقبل فكرة «الرؤية» اليابانية التي تخطط للفوز بكأس العالم 2050 بعد أن كنا نعتقد أنها «رواية» من تأثير أفلام الكرتون التي أنتجتها منذ عقود، مثل مسلسل الأطفال الشهير «الكابتن ماجد» !
تعامل احترافي
مع كل قرار تتخذه اللجنة العليا للمشاريع والإرث بشأن آلية دخول الجماهير للبلاد، يعتقد البعض أنها تتراجع عن مواقف سابقة، وللتصحيح والتوضيح نقول إن اللجنة تعاملت بذكاء واحترافية مع هذه المسألة فيما يتعلق بتقليل الشروط على جمهور المونديال، حسب كل مرحلة ومع مغادرة الفرق تباعاً.
ففي المرحلة الأولى من البطولة، والتي تعد مرحلة الذروة بوجود كل الفرق وجماهيرها كان من الطبيعي أن تكون الطلبات متوافقة مع الأعداد المتواجدة ومع التذاكر المباعة، بحيث تكون المدرجات والفعاليات ناجحة بطاقتها القصوى للوصول للهدف الأسمى وهو إنجاح البطولة، وتقديم كامل الخدمات مع مرونة في الأدوار الإقصائية حتى تتاح الفرصة لفئات أخرى من الجماهير للاستمتاع بمرافق البلاد السياحية والتراثية وتسجيل حضور في أول بطولة مونديالية في المنطقة.
آخر نقطة..
البطولة وصلت للثلث الأخير ومازالت تتألق بأرقامها وأدائها وفعالياتها، تدار بدقة عالية وجودة واحترافية قل نظيرها في العالم، بدعم من القيادة التي تحرص على الوقوف على التفاصيل وتحضر في قلب الحدث، وكذلك بجهود من مختلف قطاعات الدولة في تكاتف رسمي وشعبي، مما أدى لانحسار الأخطاء وقلة الثغرات.. ولله الحمد والشكر.
ويكفي أن نقول إن كل من سعى للتشويش عليها من دول كبرى، حاولت لسنوات بأدواتها وإعلامها العمل على إفشالها أو مقاطعتها هي من تهنئ اليوم بهذا النجاح الكبير والمنقطع النظير.
فهنيئاً لقطر والعرب، هذا العرس الكروي الجميل والذي قدم للعالم تنظيما ليس له مثيل وزاد من نجاحه وأفراحه.. المحافظة على القيم والهوية والتراث الأصيل.
محمد حمد المري - رئيس التحرير المسؤول