الفساد ظاهرة قديمة في كل أمة، أطلت برأسها في كل عصر، لذا تحرِّمها الأديان، وتجرِّمها البلدان، ويشحذ الكتاب ضدها الأقلام، كي تفسح الطريق لتحقيق الأحلام، أحلام الكثيرين من الشباب الطموح المبتكر، وجملة القول في هذا الأمر أن جميع المؤسسات المحلية والعالمية تتفق على أن ظاهرة الفساد هي العقبة أمام الاستثمار والإصلاح وتحقيق التنمية، والآفة المعطلة لحياة الرفاهية التي اشتعل لهيبها وتفشى سرطانها، وبالتالي فأضعف الإيمان ردع أساطين الفساد، ومنعهم من أن يتبوؤوا مناصب في مواقع المسؤولية في أي مكان، أو يتكاثروا ويستشروا في كل زمان، لأن الله قال في حقهم على لسان نبيه موسى: «إن الله لا يصلح عمل المفسدين».
وبعيدا عن العاطفة الوطنية، والتزاما بمبدأ الموضوعية، فإن قطر بتوجيهات حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى تبرز بين الدول الرائدة التي تقف حجر عثرة في طريق استفحال الفساد كي لا ينتشر انتشار النار في الهشيم، ويعيش ضحاياه في الجحيم، تحاول اقتلاعه من جذوره، حتى لا تتمدد وتُورِّق، وتُقلق المجتمعات وتُؤرِّق، وأدواتها ماضية وفاعلة لمكافحة هذه الآفة، ومن أبرزها إطلاق «جائزة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الدولية للتميز في مكافحة الفساد»، لدعم الجهود الدولية لمكافحة آفة الفساد بكل أشكاله ومسمياته وأهدافه، والتصدي للجريمة، وإرساء حكم القانون، وقد دشنها صاحب السمو الأمير المفدى وسكرتير عام الأمم المتحدة السيد بان كي مون سنة 2016، فقوبلت بالثناء والتأييد والتعاطي الإيجابي من رؤساء الدول والمنظمات الكبرى، مما يدل على معاناة المجتمعات من وجود الفساد ينخر في مفاصلها.
وبمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لمكافحة الفساد في التاسع من ديسمبر كل عام، يقع الاختيار على مدينة من مدن العالم ليقام بها الاحتفال المخصص لتكريم الفائزين بالجائزة أصحاب الأفكار الخلاقة لكبح جماح الفساد، وجاء الدور هذا العام على مدينة الدوحة، ولأن قطر تسعى دائما للتميز، وتجعله سمة من سمات هويتها ضمنته اسم الجائزة، ولأن الأفعال لدينا مقدمة على الأقوال فإن احتفال هذا العام تميز بميزتين مهمتين، الأولى إضافة الرياضة كفئة خامسة إلى الفئات الأربعة السابقة، ألا وهي البحث الأكاديمي والتعليم، وإبداع الشباب وتفاعلهم، والابتكار، وإنجاز العمر، أما الميزة الثانية فهي تدشين النصب التذكاري باسم الجائزة منتصب الهامة مرفوع القامة في طريق الدفنة، وقد تم تصميمه على شكل يد مشهرة في وجه الفساد، تحذيرا لكل من تسول له نفسه الإخلال بواجباته الوظيفية وتشريعاتها القانونية، وتعطيل النزاهة والشفافية، والعبث بمقدرات البلاد والعباد، فوجود هذا النصب أمام الرائح والغادي صباح مساء بمثابة إشارة تحذير وتنبيه دائمة، كإشارات المرور تحذر من الوقوع في المحظور، وتجدر الإشارة إلى أن هذا النصب التذكاري لن يكون موجودا في الدوحة فقط، بل سيرتفع شامخا في كل مدينة من المدن التي تستضيف حفل تكريم الفائزين كل عام، أي سيأتي على الناس وقت تكون كل المدن حول العالم مزدانة باسم تميم، وبالنصب التذكاري لمكافحة الفساد، فإلى جانب وظيفته الأخلاقية والإنسانية في مكافحة الفساد له أيضا وظيفة جمالية وذائقة فنية، وستكون قطر أيقونة مكافحة الفساد ليس على المستوى المحلي فقط ولكن العالمي أيضا، لإفساح الطريق أمام تحقيق التنمية المستدامة، إذ سبق للسيد بان كي مون القول بأن للفساد آثارا سلبية ملموسة على أجندة 2030 للتنمية المستدامة، ولذا تعد مكافحته عنصرا هاما في تحقيقها، حسبما ينص الهدف السادس عشر من أهداف التنمية المستدامة.
جهود سمو الأمير في سبيل تحجيم الفساد ومحاصرته في كل مكان والقضاء عليه لا تتوقف، وتحقق خطوات واسعة على المستويين المحلي والدولي، وتحظى بمباركة المجتمع الدولي والاعتراف بشرف الإقدام، يؤكد سموه للعالم أجمع أن مكافحة الفساد ليست فقط مجرد اتخاذ قرارات، ولكن بناء منظومة من الإصلاحات، وتشديد الرقابة لتمارس دورها عمليا في كل المجالات، وهناك محطات مهمة لاكتمال المسيرة منها على سبيل المثال لا الحصر أنه عام 2011 أُنشئت هيئة الرقابة الإدارية والشفافية، ومنذ ذلك الحين تؤدي دورا مشهودا في إحكام الرقابة والتمكين للشفافية ونزاهة الوظيفة العامة، وفي عام 2013 تم إنشاء مركز حكم القانون ومحاربة الفساد في الدوحة ليتولى الترويج لاحترام سيادة القانون وتدريب وكلاء النيابة والقضاة في العديد من دول العالم على البرامج الجديدة لكشف الفساد وتلاعب المفسدين، وبالتأكيد الانضمام لكل الاتفاقيات الدولية التي تعمل في ميدان مكافحة الآفة، ولا تزال المبادرات تتري واحدة تلو الأخرى، فكان من ثمراتها أن حققت دولة قطر بتوجيهات سموه كقائد عربي متفرد في هذا المجال نتائج مشرفة في مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية عام 2021، حيث أحرزت 63 نقطة على هذا المؤشر، لتتبوأ المرتبة الثانية خليجيا وعربيا، والمرتبة الـ31 عالميا من بين 180 دولة، ولتكون كعادتها في الصدارة.
بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة تطوير التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية