لم يكن يعلم يوسف النصيري مهاجم منتخب المغرب أنه عندما تسلل بين الدفاع وتسلّق الهواء بكل إبداع وانطلق من الأرض باتجاه السماء في مهمة الصراع من أجل البقاء وإكمال الإمتاع ورفض الوداع، بقفزة تاريخية قياسية غيرت موازين القوى وعاكست الجاذبية، ليهبط بعدها بسلام وضع بلاده في الأمام وكسب معه كل الاحترام.. مسجلاً هدفاً من ذهب صعد بأسود المغرب وأسعد الأفارقة والعرب.
كانت قفزة للتاريخ.. أو كان التاريخ يقفز، اللحظة تستحق التوثيق من جميع الزوايا، والنظر إليها في كل المرايا، لقد كانت مفاجأة مذهلة، بل إنها أجمل الهدايا..
الجغرافيا تغيرت والموازين تبدلت، والمجد الكروي يكتب في مكان آخر من الكوكب، عادت الهيبة وأثبت «الأولاد» قدرتهم على مزاحمة الصفوف الأولى وتبوؤ أماكن الصدارة بجدارة.
فـ «الآباء» و«الأجداد» كانت لهم صولات وجولات في شتى المجالات ويشار لهم بالبنان، في سالف الأزمان، وقد آن الأوان لتجديد الذكريات والبطولات وعودة الوقت الذي كان.. ليبدأ فصل جديد من دوحة الأمجاد.
النصيري دوّن النصر الثمين، بقفزة قياسية دون استخدام «ترامبولين»، ليحلق كالصقر في استاد الثمامة ويبلغ من المجد سنامه ويحقق الرقم الأعلى في تاريخ المونديال والهدف الأغلى في مسيرة الأبطال.
النصيري طار واقترب من كسر حاجز الثلاثة أمتار واكتفى بـ (2:78) لتكون أطول قفزة في تاريخ كأس العالم في صورة إبداع من جميع الزوايا والأضلاع ولم يعد يفصله عن قفزة الجالس على دكة الاحتياط يتجرع الحسرة والمرارة وهو يشاهد «هدف وقفرة» كلها تهدد مسيرته وأرقامه وأحلامه، وهو الغائب الحاضر «الخاسر»..
فكريستيانو رونالدو مازال يحتفظ بالرقم القياسي منذ حوالي عشر سنوات عندما كان يلعب لنادي ريال مدريد وفي مواجهة شهيرة مع مانشستر يونايتد في دوري أبطال أوروبا عندما سجل أعلى قفزة في تاريخ الملاعب الكروية (2:93).
المغرب «عسف» الكرة و«عفس» الخصوم فأصبحت مطيعة له يقودها للشباك وتقوده للأمام، حتى أصبح مع الأربعة الكبار في العالم وتبقت له خطوة واحدة ويجد نفسه يوم الثامن عشر من ديسمبر في استاد لوسيل يعيش فصول «الحلم الأكبر» والذي يشبه رواية من الدهشة والخيال.. لكن لم نعد نستبعد شيئا على هؤلاء الرجال.. حتى مسك الختام ونهائي المونديال.
المغرب أبدع في مونديال العرب وأسعد الجماهير من الخليج إلى المحيط ومثّل إفريقيا خير تمثيل، وأصبح الفيفا بذلك مطالبا بإعادة النظر في تقييم النتائج وآلية توزيع المقاعد المؤهلة لأكبر قارتين وأكثرها منتخبات نظراً للتطور الملحوظ في مستويات فرقها.
وفي مقابل «قفزة النصيري».. وعلى الجهة الأخرى وبنفس السيناريو والدراما لم يكن يعلم ديوغو كوستا حارس البرتغال أنه بهذا الخروج الخاطئ من المرمى قد نسف أحلاما وحطّم آمالا وأبكى عيونا.. لم يكن يعلم أنه قد أنهى تاريخ واحد من أفضل النجوم في اللعبة دون أن تلامس يداه كأس العالم الذهبية، أو أن يلتقط معها صورة كأحد أبطالها..
لقد أبت هذه الكأس أن تكون ضمن تاريخ كريستيانو رونالدو، الذي جمع الكثير من الألقاب الفردية والجماعية وحقق بطولات وكؤوسا وأسعد جماهيره في كل مكان.. لكن هذه حال كرة القدم.. فائز ومهزوم.. ومعطى ومحروم.
واذا كان محبو النجم البرتغالي قد عاشوا معه لحظات الحزن والانكسار وودعوه إلى خارج مشهد المونديال حتى أعلن في لحظة انهيار التوقف والاعتزال.. فإن جماهير ميسي مازالت تقف خلفه تدعو له بالانتصار وتزيين حبات اللؤلؤ والمرجان التي رصّع بها مسيرته الذهبية بتاج المونديال.. حتى يصبح الملك الرسمي للعبة.. الذي لا يشبهه أحد في مهاراته أو بطولاته.
آخر نقطة.. مربع ذهبي مميز يضم بطل العالم حامل اللقب، والحصان الأسود ممثل العرب، وأرجنتين ميسي والكرواتي الصعب..
بطولة أوفت بكل وعودها فنياً وتهديفياً وجماهيرياً وإعلامياً.. نجحت في الملاعب التحفة وفي الفعاليات المصاحبة، أشاد بها الكثيرون وأبرزهم خصومها ومن دعوا لمقاطعتها والتشويش عليها، هم اليوم من يثني عليها ويعترف بتميزها وتفوقها وتألقها، وصلت المنتخبات التي قدمت مستويات عالية وروحا قتالية، فيما الفرق التي حاولت زعزعتها أو إثارة الجدل فيها غادرت منها غير مأسوف عليها..!
محمد حمد المري - رئيس التحرير المسؤول