شملت الجولة على مبنى الأمم المتحدة، معرض قوات حفظ السلام الدولية، وبالمقابل لها كان هناك معرض دائم للهولوكوست اليهودي، وقد انطلق مرشدنا يشرح معنى حضور الهولوكوست في الأمم المتحدة، وقرر علينا نصاً: إن أي مفهوم للحرية والحقوق والسلام يجب أن يبدأ من الهولوكوست اليهودي، وأكد على اليهودي ونحن في مواجهة صور الإبادة النازية.
لابد هنا وأنا أعلّق على هذه القطعية، التي أعلنها المندوب النرويجي للأمم المتحدة، المكلف بشرح رسالتها وأقسامها للجمهور، من التذكير بمسألتين الأولى:
أن هذه الإبادة والكارثة صُبّت على الإنسان اليهودي، في قلب الجغرافيا الغربية، ولم تكن ألمانيا وحدها التي مارست التمييز العنصري ضد اليهود، ولكنها عقيدة سرت في القومية الغربية المسيحية، وهي جزء من هيكل الفكرة العقائدية القومية، التي تبنتها تلك المجتمعات، لعلو العرق وتمييز المسيحي، الذي خاض مع ذاته حروبا مدمرة بين الكاثوليك والبروتستانت.
أما الثانية: فإن حاضر العالم المسلم، مثّل في ذلك الزمن وبرعاية رسمية ومجتمعية، في حدود الدولة العثمانية وغيرها، جغرافيا الإنقاذ الأخرى، حيث تقاطرت الجاليات اليهودية، إلى المشرق الإسلامي، ومنهم من اندمج واكتسب المواطنة، ولم تقع حوادث المواجهة، التي أساءت للمقيم اليهودي، إلا بعد مشروع التهويد لأرض فلسطين المحتلة، وتسليم البريطاني الغربي، لأرض عربية ذات شعب، مندمج في محيطه، لمستوطنين أُسست دولتهم تحت عمليات عصابات إرهاب وقتل جماعي منذ ذلك الحين.
وهذا لا يعني بالمطلق سلامة تاريخ المسلمين، ولا وقوع جرائم قتل جماعي من زبانية الاستبداد، ولكننا نتحدث هنا عن هذا التاريخ والهجرات اليهودية، والأمر الآخر هو أن جرائم الحكام المسلمين، صُبّت علي المسلمين أيضا، كما شملت جماعات دينية وعرقية أخرى، كانوا المستبدين فيها، مدانين مقبحين في فكر الرسالة الإسلامية، وفي تاريخ حضارتها، ومع كل ذلك السوء إلا أن جرائم الغرب القديم والحديث، كانت أفظع وأشنع، ولها الصدارة في الاستدلال.
فهنا لا ذكر لهذا التاريخ في جناح الهولوكوست، ولا وجود لأي إشارة لمذابح عالمية أخرى، وهنا نتساءل عن المعيار الذي تتخذه الأمم المتحدة، في إسقاط مذابح الصليبيين، أو مذابح الرومانيين الوثنيين ضد المسيحيين، وإن كان الأمر هو ما بعد الحرب العالمية الثانية، فأين مذابح المستعمرين في آسيا وفي أفريقيا، التي لا يوجد لها ذكر مطلقا.
فما هو المبرر لإلغاء هذه الذاكرة من أجنحة الأمم المتحدة، ألا يحتاج زوار المعرض، بما فيهم مواطني دول الاحتلال والاستعمار باتجاهاته، الانجلوساكسون والفرنكفوني والقيصرية والبلشفية الروسية، أن يُسرد عليهم هذا التاريخ أيضاً، حتى تعزز ذاكرة رفض الظلم والحروب؟
وفي المقابل لركن الهولوكوست، كان هناك جناح قوة ال (UN) لحفظ السلام، وهناك مهام جليلة قدمتها هذه القوات كان تواجدها ضرورة، لحماية المدنيين في مناطق الحروب، لكن كانت لها كوارث كبرى أيضاً، وخاصة في حرب الصليبيين الصرب على البوسنة والهرسك، التي حتى اليوم تضم تعدداً قومياً ودينياً، حيث كان المواطنون الصرب والكاثوليك الكروات، من أبناء دولة علي عزت بيغوفتش، ومع كل التسامح الذي أبدته الجمهورية الجديدة، والتي ذُبح أبناؤها في حروب تاريخية ضد الإنسانية، إلا أنها تتعرض للتهديد اليوم من داخلها بنفس النزعة.
لكن تاريخ مقاومة البوسنة لأجل الحرية والاستقلال، يحمل بقعة حمراء موغلة في التاريخ الإنساني، ويحمل بصمة الأمم المتحدة وتحملها المسؤولية فيها، وهنا سألت المندوب المرشد، وقلت له، أليس من حق أولئك الضحايا ومن مسؤولية التبيين للرأي العام، أن تضعوا اعتذاراً في هذا القسم عن دور الفرقة الهولندية المعترف به، في مذبحة مدينة سربرنيتسا، حيث مكّنت قوات الـ UN الإرهابيين الصرب، من ذبح 7000 مواطن بوسني مسلم بأطفالهم، ومن اغتصاب مئات النساء؟
أليس من واجبكم وضع لوحة اعتذار عن مشاركة الفرقة الهولندية، جريمة الإبادة والتذكير بالضحايا؟
بدا على الرجل الارتباك في البداية، وحاول أن يعتذر عن الهولنديين، ولكني ذكّرته بأن المسؤولية حددت عليهم، وهناك ما يفيد بالاعتراف، فقال نعم واقتراحك وجيه، ووعد بنقل الاقتراح، ولا أظنه جاداً في ذلك، لكننا هنا نعيد التذكير بالمعايير المزدوجة التي تعيشها المنظمات الغربية، التي تقع تحت نفوذ الدول الغربية، ولكن ذلك لا يعني ألا نستفيد من هذه المنظمة، وهنا واجب أخلاقي فردي على كل مسلم، يمثل دولته أو هو ضمن موظفي منظمات الأمم المتحدة، أن يحرص على تذكير العالم بحقوق الأبرياء من المسلمين، وعلى مفهوم المساواة التائه بين أروقة الأمم المتحدة.