في أوائل القرن الماضي اعتنق الشاعر الألماني «بريخت» الشيوعية، وبدأت معتقداته الجديد تظهر بوضوح في نتاجه الأدبي، وعندما وصل النازيون إلى السلطة في ألمانيا صار «بريخت» مستهدفا ومطاردا، فهرب إلى أميركا!
استقر في لوس أنجلوس، والتقى بمعارضين ألمان هربوا من «هتلر»، وأسس معهم ما يشبه حزبا سياسيا شيوعيا، وكتب عدة أفلام ومسرحيات لم تلق رواجا لأنها كانت تهاجم الرأسمالية التي كانت أميركا تستعد لتسلم رايتها!
لم تكن أميركا، عدوة الشيوعية الأولى، وقتذاك، لتسمح بثورة شيوعية على أراضيها، فرفعت لائحة اتهام عريضة ضد «بريخت» وزملائه، وأرسلت في طلبهم إلى المحكمة!
اجتمع الرفاق الشيوعيون لينظروا في أمرهم، وقرروا أن يواجهوا المحكمة، وبدل أن يدافعوا عن أنفسهم عزموا على قراءة مقاطع من كتب ماركس، وخطابات لينين!
حاول «بريخت» أن يثنيهم عن ذلك، وقال لهم لا فائدة من عمل ظاهره بطولي، ولكنه في الحقيقة عمل متهور أخرق! ولكنهم لم يستمعوا إليه!
وفي يوم المحاكمة كانوا يدخلون واحدا تلو الآخر يهزأون بالمحكمة، ويقرأون مقاطع لماركس ولينين.
وعندما حان دور «بريخت» وكان آخرهم مثولا أمام المحكمة، أجاب عن كل الأسئلة بأدب واحترام، وأنكر علاقته بالحزب الشيوعي، وأنه بحكم الغربة كانت له صداقات معهم.
وعندما سئل عن نتاجه الأدبي الشيوعي، قال: لقد كتبت أدبا ثوريا ضد «هتلر» استخدمه الشيوعيون للترويج لمبادئهم.
وعندما قرأ محامي الادعاء قصيدة شيوعية «لبريخت»، لم ينكر الشاعر قصيدته، وإنما قال: لقد كتبت شعرا بالألمانية وقد أسيئت ترجمته إلى الإنجليزية!
لم تكتف المحكمة بتبرئة «بريخت»، بل أوصت أيضا أن يتم تسهيل إجراءات إقامته لدى دائرة الهجرة، وتم سجن الجميع، وعاد «بريخت» إلى منزله!
شخصيا، أكره الإنسان المتلون، وأحب أن يقف المرء شامخا مدافعا عن آرائه ومعتقداته، وليس عن عبث كان سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى حاكم ظالم، فأمره ونهاه، فقتله!
ذلك أن تسجيل موقف هو بمثابة غرز مسمار في نعش الظلم!
ولكن من باب الإنصاف أن نعترف أن الأمور تحتاج في بعض الأحيان إلى سياسة لا إلى مواجهة، وأن ثمة مواجهات هي في الحقيقة محاولة انتحار ليس إلا!
على المرء أن يقدر العواقب!
تعلمنا الطبيعة درسا في السياسة، فعندما تهب العاصفة الهوجاء، تتكسر أغصان الأشجار، هذا لأنها كانت تقف في مواجهة العاصفة، أما الأعشاب الرقيقة فتنجو لأنها كانت مرنة وانحنت ريثما مرت العاصفة!
لم يؤذن للمسلمين إشهار سيوفهم في مرحلة الدعوة المكية لسببين برأيي:
الأول أن العقيدة أولا ثم السيف.
والثاني لأن موازين القوى كانت ستجعل المواجهة مع قريش ضربا من ضروب الانتحار! فكيف للمسلمين وهم قلةٌ مستضعفون، لم يكن بإمكانهم إيقاف إعدام ياسر وسمية، أن يجعلوا الأمر مواجهة عسكرية!