كانَ رجاء بن حيوة جالساً مع تلاميذه في المسجد، فتذاكروا نِعم الله، وأنه ما أحد يقومُ بشُكرِها من الناس.
فسمعهم رجلٌ على رأسه كساء فقال: ولا أمير المؤمنين؟
فقالَ له رجاء: ما شأن أمير المؤمنين، إنَّما هو رجلٌ من النَّاس!
فالتفتوا عنه فلم يجدوه، فقالَ رجاء لمن معه: تعلمون ما أعلمُ من جُرأةِ الخليفةِ على الدم، فإن دعاكم واستحلفكم، فأنكروا!
فما مضى وقتٌ طويلٌ إلا والشرطة تأخذُ الجميعَ إلى الخليفة، وصاحبُ الكساء عنده!
فقالَ له الخليفة: يا رجاء ما حسبْتُكَ تقعُ فيَّ!
فقالَ له رجاء: ما كان هذا يا أمير المؤمنين.
فقالَ له الخليفة: أتحلِفُ أنه ما كان؟
فقالَ له رجاء: واللهِ ما كان!
فأمرَ الخليفةُ بجلدِ صاحبِ الكساءِ سبعين سوطاً، فخرجَ من عنده يتلوَّى من الألم، فلقيَ رجاءً بالباب، فقالَ له: أتكذبُ وأنتَ فقيه المُسلمين؟
فقالَ له رجاء: إنَّ سبعين سوطاً في ظهركَ خير من سفكِ دماءِ المُسلمين بالسيف!
وكانَ رجاء إذا جلسَ بعدها للحديثِ في المسجدِ يقول: احذروا صاحب الكساء!
كانَ عُمر بن الخطاب يقول: ليس العاقل من عرفَ الخيرَ من الشر، وإنَّما من عرفَ خير الشَّرَّين!
الحياةُ أحياناً لا تضعنا في موقفين أبيض وأسود فقط، وعلينا أن نختار، لكان الخيار وقتذاكَ ميسوراً هيناً! ولكنها للأسف تضعُنا في مواقف رمادية تحتاجُ إلى عقل، وإلى تسديدٍ ومُقاربة، وإلى حسابِ العواقب، واختيارِ أقلها ضرراً!
كانَ رجاءُ بن حيوة يعلمُ أنه حلفَ على غيرِ الحق، ولكنها الطريقة الوحيدة ليحفظ بها دمه ودم من كانَ معه، فأن يُجلدَ الواشي غير مأسوف عليه، أقل ضرراً من أن يُقتلَ الأبرياء!
في الخلافاتِ بين الناس لا تُقال الحقيقة دوماً، لأنها ربما زادتْ من عمقِ الخلاف، وأدَّتْ إلى هجران وفِتنة، الأمورُ أحياناً تحتاجُ إلى دبلوماسيةٍ وحكمة، وإلى كلامٍ حمَّالِ أَوْجُه، وهذا ليس من الكذبِ وإنَّما من عمقِ الفهم، وحسنِ التدبير، وحسابِ العواقب، ومن يُؤتى الحكمةَ فقد أُوتيَ خيراً كثيراً!