نعرف أن العالم مر في العام الماضي بمنعطفات تاريخية كثيرة، منها الأوبئة، والكوارث الطبيعية، والانقسامات، والحروب ومن ثم التحديات المختلفة، كل منها جاء على حدة، لكن لم نعرف منعطفا تجمعت فيه هذه التشكيلة المعقدة من الكوارث والأزمات بأنواعها كالذي يمر العالم به الآن، ولم نعرف عنق زجاجة طال كعنق الزجاجة الحالي الذي يشعر فيه الجميع بالاختناق، فالأجندة مزدحمة بموضوعات ثقيلة وشائكة ألقت بها الدول الكبرى على كاهل العالم، وأسئلة كثيرة تطرح نفسها لا تبدو في الأفق إجابات عنها، تدور حول محاور عدة كالثقافة وأزمة المناخ وجائحة كورونا والحرب الروسية -الأوكرانية، وضعف الإنتاج مع شراهة الاستهلاك، وارتفاع معدلات التضخم، وغيرها الكثير مما وضع الشباب حول العالم في مفترق طرق لا يعرفون أيها يسلكون، وبدأت تبدو عليهم مظاهر اضطراب القلق الاجتماعي، غياب التخطيط، انخفاض المستوى الثقافي، حب المظاهر، وعدم التمسك بالعادات والتقاليد والجنوح نحو المخدرات.
وفي محاولة لاستجلاء الأمر واستيضاحه حري بنا أن نرجع إلى ما كتبه بعض الباحثين وما نادى به بعض المنظرين لصالح الغرب الأميركي والأوروبي على السواء، لنستنتج أن بعض هذه الأزمات محض أكاذيب، وبعضها بفعل فاعل، فليس سرا أن الشكوك تثار حول تخليق فيروس كورونا معمليا، فضلا عن فشل سياسات اقتصادية وتعليمية وثقافية، الآثمون فيها هم الدول الكبرى، فهذا صموئيل هنتنجنتون يقول بحتمية صراع الحضارات، وفرانسيس فوكوياما يريد أن يوهم العالم بنهاية التاريخ، أي وجود حضارة كونية واحدة، وآخرون يقولون بالعولمة، وغيرهم ينادون بنظام عالمي جديد، وهكذا حتى شتتوا أفكار الناس، والخلاصة أن ساسة الغرب يروجون لأفكار لا تقيم وزنا لثقافة بقية الشعوب، ولا علاقة لها بحقوق الإنسان التي يدعون أنهم حراسها، ويعتبرون أنفسهم خلقوا ليعطوا للعالم دروسا في كيفية العيش الرغيد والحياة السليمة، متجاهلين أنهم تسببوا في الأزمات التي يئن العالم تحت وطأتها.
غير أن دراسات حديثة جادة ورصينة صدرت مؤخرا تشخص الحالة، منها دراسة مايكل هدسون «القدر أو الحضارة» التي توصلت إلى أن غرور الطبقة الحاكمة منذ عهد نيكسون جعلها تعتبر أن التفوّق الأميركي أبدي، ليس بناء على الإنتاج كما ونوعا، وإنما على رؤية توراتية، وشجعها على هذا انتزاع الحق في طبع عملة الدولار دون الاستناد إلى احتياطي من معدن الذهب أو نشاط اقتصادي وصناعي رائج، مما جعل الرجل يتنبأ بأن أفول الغرب الذي بدأت إرهاصاته يعود إلى صعود الرأس المالية الريعية التي تتحقق بالحصول على الربحية دون أي نشاط اقتصادي أو إبداعي.
هذه الرؤية ألقت بظلالها على بقية مجموعة الدول الغربية المنتجة، أعني كندا والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، فكانت النتيجة الطبيعية إهمال الإنتاج الذي يعد المصدر الأول لقوتها وفرض هيمنتها، فبعد أن كانت نسبته 67% من الناتج العالمي، هبطت في عام 2020 إلى حوالي 30%، والتوقعات تفيد بانخفاضه إلى أقل من 28% هذا العام، مما أعطى مبررا لأريانا هفنغتون مؤسّسة موقع «هفنغتون بوسط» لأن تصنف الولايات المتحدة كدولة من العالم الثالث على خلفية ديونها التي تقدر بعشرات التريليونات من الدولارات، بعد أن أطلقت العنان لثقافة الاستدانة.
ومما عمّق فشل النموذج الغربي كنموذج يحتذى به عدم مراعاة التكيف مع التنوع الثقافي الداخلي لديهم والخارجي لدى الدول الأخرى، فبالنسبة للمشهد الداخلي فلطالما وقعت مصادمات بين أصحاب البشرة البيضاء والصفراء والسوداء ومن جاءوا مع موجات الهجرات الأفريقية والأسيوية وأوروبا الشرقية، وبدل الاستفادة من التنوع العرقي تفشت العنصرية، بتزكية من آلة الإعلام وصناعة السينما التي تشجع أفلامها على الإبادة الجماعية للآخر، أما خارجيا فيحاول الغرب فرض ثقافته طوعا وكرها رغم قيامها على الإباحة التي يطلقون عليها زورا وبهتانا حقوقا وحريات وإبداعات، وليس ببعيد محاولاتهم اليائسة الدعوة للمثلية خلال كأس العالم في قطر مع علمهم أن منظومة القيم الدينية والأخلاقية لدى العرب والمسلمين تأنف هذا الفعل الشنيع، كما كشفت ثقافة الترابط الأسري التي ظهرت لدى منتخب المغرب بإحضار اللاعبين أولياء أمورهم معهم أن الأسرة في ثقافة الغرب كادت أن تصبح موروثا بائدا، فهل يعي الغرب أهمية الحوار الثقافي وإدارته إدارة جادة قائمة على الندية بعيدا عن الاستقطاب؟!.
ننتقل إلى صعيد آخر يتعلق بالحرب الروسية -الأوكرانية، فلعلها أقنعت الغرب بفشل نظرية نهاية التاريخ، إذ من المستحيل أن يعيش الكوكب في ظل أيديولوجية واحدة يفرضها الغرب على حضارات سبقته إلى الوجود، ولديها من القوة العسكرية والاقتصادية والإرث الثقافي ما يمكنها من المواجهة وإثبات الذات، ويجعلها مستعصية على التحلل أو الذوبان، فمما لا شك فيه أن هذه الحرب أسفرت عن تحالفات فتحت الباب للدخول في عصر تعدد الأقطاب.
إضافة إلى ما سبق لم ينس العالم أن الغرب الأميركي والأوروبي هو المتسبب الأول في مخاطر وكوارث المناخ، دون أن يبدأ في تقديم التعويض المستحق للدول المتضررة، وأحد الأدلة على عدم جدية الدول الصناعية في سبيل التصدي للظاهرة المناخية أنها قررت من قبل المساهمة بمائة مليار دولار للدول الفقيرة المتضررة لكن هذه المبالغ لا تزال ممنوعة من الصرف.
والسؤال الكبير هنا أين المنتدى الاقتصادي من هذا الواقع، لماذا لا يناقش مدى تحقق القدرة التنافسية التي يعرِّفها تقريره بأنها قيام الدول الكبرى ببيع الإنتاج والخدمات وفي الصدارة إنتاج التكنولوجيا بأسعار تناسب الأسواق، فالحاصل الآن أن هذه الدول تتنافس وتتصارع فيما بينها على استحواذ تجارة الرقائق الإلكترونية وتركوا للدول الفقيرة المنافسة على رقائق الشيبس.
بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة تطوير التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية