تعد استطلاعات الرأي العام من أهم الدراسات التي تحظى نتائجها باهتمام واسع لدى صناع القرار والمفكرين وخبراء الإعلام، لأنها بمثابة البوصلة التي تشير إلى الاتجاه الصحيح الذي يجب على الأنظمة السير فيه، ولأنها من جهة أخرى تشكل المنطلق الأساسي والسليم لوضع الخطط التنموية المختلفة في المجتمعات التي تسعى إلى التقدم والتطور.
والقائد أو الحاكم الرشيد عندما يتخذ قرارا يتعلق بحياة شعبه ومصالحه لابد أن يكون قراره استجابة فعلية لاتجاهات الرأي العام، واتساقا مع مطالبه، وانسجاما مع طموحاته، كما أن أية حكومة تضع خططا اقتصادية أو اجتماعية أو تتخذ سياسات أو تسن قوانين يجب أن يكون لديها مؤشرات صحيحة ونتائج علمية واضحة حول اتجاهات الجماهير وآمالها وآلامها، وإلا فإنها بذلك تعمل من فراغ وتدير البلاد بصورة عشوائية.
لهذا وجبت الإشادة بجهود المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي أعلن مؤخرا عن نتائج المؤشر العربي 2022 الذي نفذه في 14 بلدًا عربيا، هي من منطقة المغرب العربي: موريتانيا، المغرب، الجزائر، تونس وليبيا، ومن وادي النيل: مصر، والسودان، ومن منطقة المشرق العربي: فلسطين، لبنان، الأردن والعراق، ومن منطقة الخليج العربي: السعودية، الكويت وقطر، بهدف الوقوف على اتجاهات الرأي العام العربي نحو مجموعة من الموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقدم بذلك هدية قيمة على طبق من ذهب لقادة وحكومات هذه الدول، ترشدهم إلى الأولويات، وتضيء لهم الطريق كي ينطلقوا في معالجة قضايا شعوبهم وبلادهم من منطلق موضوعي وأمين، فالاستطلاع قد تم تنفيذه باحترافية عالية، من خلال باحثين جادين ومستجيبين واعين بقضايا بلادهم، ومؤمنين بأهمية هذا الاستطلاع، وهنا تجدر الإشارة إلى دليل قاطع على دقة إجراء هذا الاستطلاع والاطمئنان إلى نتائجه، ففي إطار التعرف إلى آراء المستجيبين حول القضية الفلسطينية خاصة في هذه المرحلة التي يتحدث فيها خبراء وسياسيون كثيرا عن مدى إمكانية فك الارتباط العربي بهذه القضية المصيرية، فإن النتائج تشير إشارة جلية إلى استحالة هذا الفك، فالنتائج تقول إن المجتمعات العربية ما زالت تعتبر القضية الفلسطينية هي قضية العرب جميعا، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم، إذ عبر عن هذا الرأي ما نسبته 76 % من أفراد العينة البالغ عددهم 33300 مستجيب، وعليه فقد رفض 84 % الاعتراف بإسرائيل بسبب طبيعتها الاستعمارية العنصرية والتوسعية.
فهذه النتيجة جاءت متفقة مع ما كان واضحا ولمسناه جميعا خلال مونديال قطر 2022 في الدوحة، فكلما طلب مراسلو التليفزيون الإسرائيلي الحديث مع أي مشجع عربي قوبل طلبهم بالرفض، لقد نبذهم المواطنون العرب رجالا ونساء كبارا وصغارا، الأمر الذي جعل المراسلون يُعدُّون فقرة حول عدم قبول الرأي العام العربي لوجودهم، فهذا الاتساق التام بين نتائج الاستطلاع وبين موقف المشجعين من التليفزيون الاسرائيلي يؤكد أن الاستطلاع تم بدقة عالية واحترافية مهنية وتحليل موضوعي.
نتائج الاستطلاع حافلة بالأرقام التي لا تتسع المساحة المتاحة للخوض في تفاصيلها، لكن إجمالا في منطقة الخليج العربي فإن 89 % يرون أن الأمور في بلادهم تسير في الاتجاه الصحيح و8 % يرونها تسير في الاتجاه الخاطئ و3 % ما بين رفض أو عدم معرفة، أما في منطقة المغرب العربي يرى 41 % يرون الأمور في بلادهم تسير بشكل صحيح و48 % يرونها في الاتجاه الخاطئ و11 % ما بين رفض الإجابة أو عدم المعرفة، وفي منطقة وادي النيل 13 % يرون أن الأمور في بلادهم تسير في الاتجاه الصحيح بينما يرى 64 % انها تسير في الاتجاه الخاطئ و5 % بين رفض الاجابة أو عدم المعرفة، وفي منطقة المشرق العربي يرى 14 % أن الأمور عندهم تسير في الاتجاه الصحيح، 84 % يرونها في الجاه الخاطئ و2 % بين رفض الإجابة وعدم المعرفة.
وهناك ملاحظة دقيقة مهمة وهي أن فريق البحث عمد أثناء تصنيف وتبويب النتائج إلى تخصيص إطار لكل بلد على حده فضلا عن الإطار الإقليمي، ذلك لأن الإقليم الجغرافي الواحد به أنظمة متنوعة السياسات ومختلفة التوجهات ومتباينة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
نتمنى من الحكومات العربية والمنظمات الإقليمية والدولية وقادة الرأي الاستفادة القصوى من نتائج هذا الاستطلاع الضخم الذي تكلف تنفيذه ميزانية كبيرة كونه أضخم مسحٍ للرأي العام في المنطقة العربية من خلال حجم العيّنة، وعدد البلدان التي يغطيها، والمحاور البحثية، وشارك في تنفيذه 945 باحثا وباحثة، واستغرقوا أكثر من 72 ألف ساعة.
الاستطلاع خدمة جليلة يقدمها المركز للأنظمة والحكومات العربية، ففي الدول المتقدمة نتائج الاستطلاعات تباع بأثمان باهظة، لأنها تقدم معلومات على درجة كبيرة من الأهمية في عصر اتسم بكونه عصر المعلومات، وأختم ببيتين من الشعر للمتنبي:
الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ
هُـوَ أوّلٌ وَهـيَ المَحَلُّ الثّاني
فـإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْـسٍ حُرّةٍ
بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلَّ مكانِ