أدهم شرقاوي
روى الخطيبُ في تاريخ بغداد، وابنُ عساكر في تاريخ دمشق، والبيهقيُّ في شُعب الإيمان:
أن محمد بن أحمد القاضي قال: حضرتُ مجلسَ إسحاق القاضي في الرَّي، وتقدَّمتْ إليه امرأة، وادَّعتْ أنَّ لها على زوجها خمسمئة دينارٍ مهراً لم يدفعها إليها بعد!
فأنكر الزَّوجُ هذا!
فقال القاضي للمرأة: أين شُهودكِ؟
فقالت: أحضرتهم، وهم في باب مولانا القاضي.
فأمرَ بهم القاضي، وسألهم، فقالوا: كيف نعرفها وخمارها على وجهها؟!
فقال القاضي لها: قومي.
فقال الزوج: ماذا تفعلون؟
قال: ينظرون في وجهها ليتثبتوا أنها هي!
فقال الزوج: فإني أُشهدُ القاضي أنَّ لها عليَّ من المهر الذي تدَّعيه، ولا تكشف عن وجهها!
فقالتْ الزوجة: أمَّا وقد بلغتَ هذه غيرتُكَ عليَّ، فقد وهبتُكَ المهرَ، وأنتَ في حلٍّ منه في الدنيا والآخرة!
فقال إسحاق القاضي: يُكتبُ هذا في مكارم الأخلاق!
هذه المقالة ليست مقالة فقه، ولا مقام ترجيحٍ بين أدلة الفقهاء حول وجوب تغطية الوجه أو عدمه، ولكن من نافلة القول أن أذكرَ أنَّ ما أدينُ اللهَ به في المسألة، أن غطاء الوجه من الفضائل لا من الفرائض، بمعنى أني لا أفرضه على أهل بيتي، ولكن إن اختاروه فإني أُشجعهم عليه!
الغيرة على العرض من سُنن الفطرة، شيء أودعه الله سبحانه في صدور الرجال تجاه النساء إكراماً لهُنَّ، من اللحظة التي خُلقتْ بها أُمنا حواء من ضلع آدم، وصار في تركيبه النفسيِّ والعقلي أنها جزء منه، يصونها، ويحميها، ويذودُ عنها، ومنه ورثنا هذا الخُلق النبيل، والفطرة بالأساس لا تحتاج إلى دينٍ ليجدها المرءُ في نفسه، لأن الخالق العظيم قد أودعها في «نظام التشغيل» الخاص بنا، ولكن ما من فطرةٍ إلا وعمل الدِّينُ على تقويتها، وصيانتها من الفساد!
كان العرب في الجاهلية أهل أوثان، ولكنهم ضربوا في الغيرة على أعراضهم أمثالاً لا تتسع لها الكُتب الطوال! إحدى حروب الفِجار الأربع التي نشبت بين العرب في الجاهلية كان سببها أنَّ شباباً تناهى إلى مسامعهم جمالَ امرأةٍ من بني عامر، فأحاطوا بها في سوق عكاظ، وطلبوا منها أن تكشف عن وجهها، فرفضتْ، ولما ألحُّوا عليها ما كان منها إلا أن نادتْ بأعلى صوتها: يا آل عامر!
فسلَّ بنو عامر سيوفهم، وبدأت الحرب!
مما يندى له الجبين أن أخلاق الغرب قد غزتْ بيوتنا، وفسدَ شيء من فطرتنا في هذا المجال، حتى اتسعت رقعة الصداقة بين الشباب والبنات، وكثر الاختلاط في مجالات ما من داعٍ لها أصلاً، حتى صار المرءُ إذا أراد أن يُنكره اتهموه بالرجعية والتخلف!
دافِعُوا عن فطرتكم يا معشر الرجال ولكن بحكمة وعقل، أقيموا الضِّلعَ دون أن تكسروه، وحيث لا هوادة فلا تلينوا، فلا يدخل الجنة ديوث! وأنتنَّ معشر النساء فليسقط من أعينكن كل من لا يغار عليكُنَّ، وإن حدثَ أن كان الرجل حاداً في غيرته فتفهمنَ أنه وإن أساء في التعبير فقد أحسنَ في القصد!