روى «ابن الجوزي» في كتابه «التبصرة»، أنّ الخليفة العباسي المعتضد، مرّ في بعض أسفاره بقرية فيها أرض قثّاء، وهو نبات شبيه بالخيار، فدخل بعض غلمانه أرض القثاء، وأخذوا منها!فقام صاحب الأرض صارخا، فحمل إلى الخليفة، وسأله عن أمره.فقال له: إنّ بعض غلمانك أخذوا القثاء من أرضي.فقال له الخليفة: أتعرفهم؟قال: نعم، هم ثلاثة.فجاء المعتضد بغلمانه، وعرضهم أمام صاحب الأرض، فتعرّف على غرمائه!فأمر بهم المعتضد أن يقيّدوا ويسجنوا.وفي الصباح، وجد الناس الثلاثة وقد قتلوا وصلبوا! فصاروا يتحدّثون عن سفك الخليفة للدماء، وأنه قتل ثلاثة في شيء لا يستحق!ودخل الفقيه والعالم الخوّاص على الخليفة وكان من جلسائه، يريد أن ينكر عليه!ولمح الخليفة في وجه الخوّاص غضبا يعرفه منه إذا أراد أن ينكر عليه.فقال له: إني أعرف في نفسك كلاما، فما هو؟فقال له الخوّاص: وأنا آمن؟فقال له المعتضد: نعم.فقال الخوّاص: تقتل ثلاثة غلمان في بعض القثاء، لعمري هذا تجرّؤٌ على الدماء يا أمير المؤمنين!فقال له الخليفة: أتحسب أنّ المصلوبين هم غلمان القثاء؟ لا والله، هؤلاء لصوص، قتلوا وسرقوا، فوجب قتلهم، فألبستهم ثياب غلماني بعد قتلهم، وعرضتهم للناس حتى يقولوا إن كان قد قتل غلمانه لأنهم سرقوا فلن يرحم منا أحدا، وما أردت إلا أن أرهب الجيش حتى لا يفسدوا في الأرض!لله درّ الفقيه الخوّاص، ولله درّ الخليفة المعتضد!عندما رأى الخوّاص أن الخليفة قد أتى منكرا، لم يتزلّف له، ولم يمدح فعلته لينال عنده الحظوة، وإنّما أخبره بأن ما كان منه خطأ، وأنه ما كان يجب أن يفعل.إنّ أكثر مصائبنا اليوم ليست في الحكّام بقدر ما هي في الحاشية، فالحاكم بشرٌ يخطئ ويصيب، ولو وجد من جلسائه من ينصحه وينكر عليه، لتغيّرت الأحوال، ولكن قاتل الله التطبيل والمطبّلين!وما أذكى الخليفة حين عرف أن الناس إنما ينظرون إليه وإلى حاشيته، وأنه إذا رتع وأفسد وإياهم فإنّ الناس يقتدون بهم، وإن استقام وإيّاهم استقاموا، وقد أراد أن يعرف الناس أن لا كبير أمام الحق، وأن الكل تحت سقف القانون، ولا شيء يرسي دعائم الدّول غير أن يكون الكل أمام القانون سواء!