من الضرورة بمكان أن نتوقف لقراءة عقلية استراتيجية في الظاهرة المتكررة، سواء بحرق نسخ من المصحف الشريف، أو الإساءة لرمز النبي صلى الله عليه وسلم، أو مقدسات المسلمين، التي يقوم بها اليمين المتطرف الصاعد بقوة، والذي تزداد تغطيته السياسية بحكم تنامي شعبيته.
فالمواسم العاطفية المتكررة التي لا تساهم في وقف الجريمة، ولا في رفع التكلفة على بلدانهم، تعني أن هذه اللعبة، أضحت قوة استنزاف للمسلمين في المهجر والمشرق، بتكلفة بسيطة لا تُذكر، وحتى لو أوذي هذا السفيه الحقير، تُجيّر الحادثة لصالحه.
وقد يُتعقّب على هذا الأمر بأن تلك الأعمال الدنيئة والرد العاطفي عليها، تُعطي حضوراً للإسلام ويبدأ الغربيون بالبحث، والحقيقة أنه رغم أن هناك اهتماماً يبرز عند البعض، في أتون تلك الجرائم، إلا أن ذلك لم يوقف مشاعر الكراهية والميل لليمين في الغرب، وهذا يعني أن هذه اللعبة أضحت بيد اليمين المتطرف، ويَصعدُ بها موسمياً، وأن مساحة التأثير الإسلامي لا تكاد تذكر.
والسؤال الآخر، هل الدعوة للإسلام أو لفتُ النَّظَر إليه، يحتاج أن ننخرط في لعبة اليمين المتطرف، أم أن لدينا عجز خارج الخطاب الديني المقدر لدعوة غير المسلمين للإسلام، ولكن هناك رسالة فكرية معطلة، في إعادة بعث الفكرة الإسلامية، في منابر ومنصات، لو خُدمت إعلامياً، لحققت مساراً مزدوجاً مهماً للغاية، وهو تحقيق لغة رد راقية عقلية وأخلاقية ومنضبطة التعبير والثقة، توصل الرسالة الإسلامية للنخبة والجمهور معاً، ويتلقّى اليمين عبرها ضربة كل مرة، حيث يجد صدى فعلته يرتد عليه.
فهل هذا يعني أننا نمنع الناس من الغضب لكتاب الله، أو أننا ننفي شرعية ودور المظاهرات والاحتجاجات المنضبطة، والمنظمة لإيصال رسالة التعبير، للدول الراعية لأعمال الكراهية الحقيرة، ولدول المسلمين وتحميل الإطار الرسمي، مسؤولية تبني موقفا ضد هذه الدول، نقول كلا..
فإن حق التعبير وصعود الرسالة له مضماره، لكن يجب ألا يتحول إلى حملات فوران تُجهد الشارع، وتُعيي المنظمين، وإلا ستتحول السوشل ميديا في تويتر وغيره، لعملية تفريغ الشحنات النفسية لجمهور المسلمين، فيما يُحقق اليمين المتطرف خطوات في صعوده المتدحرج، لاستفزاز المسلمين، وتعزيز الحصار على المجتمع المسلم في الدول الغربية، واكتساب مساحة لتشويه الإسلام في لفت النظر إلى أكاذيبهم عن القرآن.
يجب القول أولاً أن هناك قوة تأثيرية ويقيناً عقلياً وروحياً، أعجَزَ بها القرآن عُداته وكارهيه، وحوّل بعضهم للإيمان به، بعد أن تمكّن الغل من أنفسهم، والقصص في ذلك كثيرة، حتى على الصعيد الغربي، والفراغ الكبير اليوم، هو أن الظاهرة القرآنية، كخطاب روحاني دقيق، وعقلاني غيبي مدلل، يُعيد تصوير الحياة الدنيا بين فطرتها ومصلحة الذات الإنسانية فيها، لا يزال بعيداً عن الغالبية الساحقة من الأسرة البشرية، وقد كانت مهمتنا التي بُعث بها المصطفى صلى الله عليه وسلم، إيصال هذه الظاهرة إليهم.
إن لغة هذا الرسالة، تختلف عن لغة الدعوة الفردية للعامة من الغربيين وغيرهم، وليس في تلك الجهود حرج، بل هم في مهمتهم الخاصة، حين يتمثلون خلق المسلم، في ذاتهم وفي خطابهم التطوعي الودي، لكن معارك الفكر لبلاغ الظاهرة القرآنية، تحتاج إلى منصات متعددة، يجب أن نصل إليها، وأن نسعى لتحقيقها إن لم نكن نملك تلك المنابر، ونطورها حتى تصل لذلك العالم المغيّب عن فلسفة القرآن.
وهناك فرصة مهمة لتفعيل الطرف الرابع في آلية المواجهة الفكرية مع الغرب، وهي مواجهة رد وتصحيح وخلق جسور لحضارتين معاً، وهو أن ننقل هذه القضية إلى مسارات الحوار الأكاديمي بين الشرق والغرب، من خلال تفعيل منصة حوار مشتركة بين جامعتين في الشرق المسلم وفي الغرب، أكان في أميركا الشمالية أو في أوروبا، مهمة هذه الندوات أن تطرح أخلاقية القانون المشرع، لجرائم استهداف المقدسات، ومصلحته للسلام العالمي، على طاولة البحث.
هذه الندوات التي يحضرها أساتذة من الطرفين، تُنقل ندواتها عبر القنوات الأجنبية، وهي ستكون غالباً باللغة الإنجليزية، أو مترجمة إليها، فمع عرض مقاطعها للجمهور العام، من خلال وسائط سريعة الوصول والتأثير، تُقدم خلاصاتها إلى المنظومة التشريعية في برلمانات الدول الغربية، وتُطلق حملة دعم لها في أوساط الشارع العام، ويُسعى بقدر الاستطاعة، لتوصيلها إلى المنصات الإعلامية.
هنا سنكون قد وصلنا إلى مساحة منبر تأثيري، يسمع منا الآخرون ويفهمون، قصة الظاهرة القرآنية، فتزدري عقولهم، صبية السفهاء في اليمين المتطرف، فيصطفون مع القيم الإنسانية المشتركة، وأخلاق الإنسان العالمي.