يهرب الإنسان بطبيعته من كل ما يثير الألم والتعاسة. لكن في عالم اليوم بالتحديد، حيث أصبحت المادة عصب الحياة الأول، وباتت قيمتنا كأشخاص مرهونة بمقدار ما نملكه من مال وجاه وأشياء مادية؛ فإن الأشياء التي تبعث على الكآبة والقهر والصدمة صارت أكثر من أي وقت مضى، كما أن طبيعة الحياة المتقلبة كأمواج البحر التي لا تعرف السكون تجعلنا على الدوام في مرمى النيران، ولا تنجي أحداً من براثن القدر وغدر الأيام. وبالتالي فلا خلاص لأي امرئ في الماضي أو الحاضر أو المستقبل من الصدمات والخيبات، لأنها جزء لا يتجزأ من الحياة البشرية.
إن المواقف الصعبة، والتحديات الجسيمة، والهزات التي تنخر وجدانك نخراً أمر واقع لا محالة بقطع النظر عن أصلك وفصلك. فإما تصر على إغماض عينيك عن رؤية الحقيقة، أو تستفيق من غفلتك لترى النور. فإن لم تفعل ذلك من تلقاء ذاتك، فإن هناك من الهزات في الحياة ما سيجعلك تصحو رغماً عنك، وتمسح الغشاوة من عينيك لتبصر الحقائق التي كنت غير مدرك إياها بينما كانت عيناك في السابق مأخوذة بالحب أو العاطفة أو مخدوعة ببعض الناس المحيطين بك. نخاف الألم ونخشى الأحزان أينما كانت ومن أي مصدر جاءت. نركض هاربين من أي شيء يتسبب لنا بذاك الشعور القاتم الذي يحيل الوجود إلى جحيم، بيد أن بعض الآلام حاجة ملحة في الحياة وضرورة لا غنى عنها، بل إن من دونها لا يمكن تحقيق الفرح الداخلي، والارتقاء بالفكر والروح إلى مقام أسمى.لو كانت حياتك عبارة عن سلسلة من الأحداث السارة فحسب، لما شعرت بدافع للقيام بأي شيء، أو رغبة في نيل أمر صعب المنال، أو توق للوصول إلى مكان لم تصل إليه بعد. وقتها ستكون أيامك جميعها نسخة طبق الأصل عن بعضها البعض، ولن تشعر بلذة أي شيء تملكه، لأنه متاح على الدوام.
إن نقيض الفرح والسعادة في عالم البشر هو الذي بفضله نشأت الحضارات، وقامت على إثره الفلسفة أم العلوم، ووضعت في سبيله آلاف المؤلفات الفكرية والأدبية والنفسية وغيرها. لولا أن في الوجود الإنساني بؤس وشقاء لما قادنا ذلك إلى التفكير والتأمل والبحث عن أجوبة لأسئلتنا التي لا تنتهي، مما ساعدنا على سبر أغوار الفضاء، وتسخير الطبيعة لخدمة أغراضنا، وابتكار أشياء عظيمة.
من هذا المنطلق، وحين تدرك أن الأشياء السلبية في الواقع هي هبة من الله كي تنمو وتنضج وتخوض أكثر في طريق الحكمة؛ فستنقلب حياتك رأساً على عقب، ولن تعود من بعد ذلك ضحية الناس والظروف، بل ستتعلم من كل تجربة تمر بها، وتخرج من كل حدث صعب وموقف سلبي أقوى من ذي قبل.
بعض الصدمات في هذا العالم تدفعنا لإعادة ترتيب أولوياتنا وفرز الأشخاص في حياتنا الاجتماعية والمهنية. وفي أغلب الأوقات سواء أدركنا ذلك أم لم ندرك تكون قيمتها وفائدتها أعظم بكثير من الأضرار التي تتسبب بها على المدى الطويل.
مثل تلك الصدمات وخيبات الأمل علينا أن نشكر الله على حدوثها، لأنها وضعتنا على الطريق الصحيح، وجعلتنا نستفيق من بعد سبات قصر أم طال، وبفضلها اختصرنا على أنفسنا مزيداً من الأسى والمعاناة والضياع في غياهب الظلمات، إلى جانب أنها ساعدتنا على اختزال وقت كثير بددناه على أشخاص لا يستحقون منا أي اهتمام أو محبة أو تضحيات.
فلا تخشَ آلام الحياة بعد الآن، لأن بين طياتها تكمن فوائد عظيمة، ومن دونها لا يمكن أن تصبح أفضل وأقوى شكيمة وأكثر حكمة. الاستسلام لخيبة الأمل هو الذي يجعل الألم يستمر، أما التعلم من التجارب الصعبة، والاستفادة من النكسات والسقطات فمن شأنه أن يجعلك تمضي على الطريق الصحيح وصولاً إلى حياة أفضل وأكثر وفرة من كافة النواحي والأصعدة.