مع التوغل في رحلة روسو مع طفله الافتراضي إميل، وإميل كتاب في التربية، صاغه روسو لتقرير فلسفته في حياة الطفولة، ورغم الجدل الكبير حوله إلا أنه مثل قاعدة تأثير مهمة في صناعة نفسية الفرد في أوروبا التنوير، وهو يقترن بالضرورة كمقدمة لعقده الاجتماعي، وحين نواصل الإبحار فيه، نبدأ بالتقاط المنهجية التي يحاول روسو صناعتها.
فيبرز لديك بوضوح حرص روسو المشدد على أن يخلق نموذج طفولة رشيد، يعوّض به ما رآه من قسوة المجتمع أو فوضى تعاطيه مع الطفولة، كونها اللبنة الأولى في صناعة الفرد الحر والمواطنة المسؤولة، لكن يظهر لك جلياً بأن روسو بالفعل يفتقد إلى التجربة العملية لحياة الأب التربوي، لكنه يعسف ذاته، لكي يكون منبراً أخلاقيا فاضلاً، رغم النقص الشديد في تحقيق خلاصات التجربة الواقعية.
أما الجانب الثاني فهو أن روسو يُطلق عقل التدبر في المشهد الإنساني حوله، ويلتقط شواهده ويُحرّك تدبره العقلي بقوة، مع قراءة ما قدمه الفلاسفة في علم التربية واطلع عليه، وهو ما يساعده على الوقوف على ظواهر وعلل، قد غفل عنها الكثير في الحياة الأوربية ومعاهدها في القرن الثامن عشر، وهو هنا يقرر مغادرة الطفولة بصفات تأهيلٍ للطفل، قدرها روسو في عقله.
رغم أنها ليست حاسمة علمياً في تحديد العمر الانتقالي، حيث يعتمد على أن مرحلة الكلام عند الطفل، تكفي لطي طفولته، وأن بقاء البكاء ليس مؤشراً لضرورة عاطفية، وإنما لمحاولة استدعاء البكاء، ليُعبّر عن مشاعره.
ولذلك فهو هنا يقول إن إميل لن يكون كذلك، فيجب عليه ألا يبكي، وبالطبع كون أن إميل طفل افتراضي لا حضور له إلا في الورق، فلا يوجد اختبار لقرارات روسو عليه، ولكن روسو يتوسّع في بيان مقاربة الطفل لطوارئ الطبيعة، وأهميتها على تعويد إميل، على أن يتجرع الألم كتجربة إنسانية ضرورية.
ويُشدّد روسو على أن إظهار الفزع أو التعجل بالتضميد أو الاهتمام المبالغ به، في سقوط الطفل وجرحه، هو ما يزيد حصيلة الألم، وأن هذه المشاعر المضطربة القلقة، تضاعف حصيلة الجرح أو الرضوض ولا تحل المشكلة، كما يرفض بشدة مساعدة الطفل في محاولات المشي، وليُترك لتجربته حتى يتعثر ويقوم على ساقيه ويمشي.
ونلاحظ هنا بأن روسو يربط من جديد مثل هذه المعالجة التربوية، بروح الحرية والتحمل، والتي يُقارن بها الأطفال من الطبقات التي لا تحظى بوسائط رفاه ورغد العيش، بأن حالة الاحتمال وتجاوز الكآبة للفقراء، هي أفضل لديهم من الطبقة المرفهة، ولذلك يدعو الناس عبر مشروع إميل، لترك الأطفال يعيشون الألم فالألم جزء من التجربة الإنسانية الضرورية، وليقع الطفل ألف مرة، وليرضَّ جسده وليُجرح فما المشكلة هنا؟
ومن جديد تَطرح أسئلة روسو في التأمل منظوراً أكثر حيوية، رغم أنهُ وهذا ملحظٌ مهم، لا يعتمد على الإحصاء ولكن على التأملات العامة في الحياة.
ثم يقتحم روسو مصدر الخوف على الأطفال عند الأسرة، ويصارح المجتمع من جديد، بأن وسائط حماية الطفل لكي يطول عمره، هي تربية همجية (هكذا يسميها)، ففي الأصل لا يُعمّر من الأطفال إلى منتصف عمرهم إلا نصفهم أو أقل، وهذا بالطبع تغير بعد اكتشاف أمصال اللقاحات، رغم التحفّط على تأثيراتها الجانبية، أو الدافع الأخلاقي للتوسع في بعض مساراتها، لكن تُظهر أرقام الإحصائيات العالمية، أن دلائل الاستباق إلى الوقاية، يحقق عمراً أطول.
لكن روسو يطرح قوةً أخرى للعمر وهي التجربة والفاعلية، وأن المبادرة إلى التحصين من الحوادث قد تُكبّل الطفل، فلا يعيش تجربة طفولته في المحن والآلام، والتي يراها روسو من صالحه، وأن الرهان على طول عمر الطفل هو خطأ بحد ذاته، يجعله شقياً في طفولته من كثرة ما يُكبّل به، مراهنةً على مظنون قدري غير مضمون لحياة أطول، ويسخر هنا من هذه المراهنة.
ويندفع روسو ويستبق من يهاجمه، رفضاً لنظريته بحديث شرس ويهزأ من الفلاسفة السوقة، ومن الحكماء المزيفين بحسب تعبيره، الذين يخلطون بين الإباحية والحرية، وبين الطفل المدلل والطفل السعيد، ولا ندري لماذا طرح روسو هنا لفظ الإباحية بأنها تُخلط خطأً مع مفاهيم الحرية، ولكن تقريراته الأخرى، ونزعته مع الطبيعة في مواضع أخرى من كتبه، يُفهم فيها الوازع الأخلاقي في العلاقات، رغم قصته المخالفة مع تريز زوجته المضطهدة.
وفي كل الأحول فأفكار روسو تحتاج إلى مراجعة ونقد، لنا معها عودة أخرى.