كل شيء في هذا الكون الفسيح له أصل، ولا أصل بلا صورة؛ لأنه يحتاج إليها حتى يسمى أصلاً. وبالتالي لا يوجد أصل قائم بذاته ولوحده، بل تستمد الأشياء أصالتها من غيرها، وهذا يتضح من أصل كل ما يحيط بنا من مخلوقات وجمادات ليس لها وجود فعلي إلا لأننا نراها، ولا قيمة لجمالها إلا في عيون البشر. فلولا الإنسان لن يوجد شيء اسمه خير وشر، جمال وقبح، أصل ونسخة، وهكذا دواليك.
وفي عالم الإنسانية، هناك دوماً أصل يتمثل في الأجداد والآباء والتاريخ البشري الذي مر بعقود متلاحقة وعصور متعاقبة حاملاً معه مختلف صنوف الإنجازات والإسهامات والتغيرات البيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لكل شعب ولكل أمة تاريخ مغرق في القدم، ونقطة بداية تفرع عنها مشوار مليء بالتحديات والصعوبات والعراقيل وصولاً إلى حيث أصبحت اليوم. لم تكن بدايات الإنسان بسيطة أو سهلة على الإطلاق، ولم نصل إلى حيث نحن الآن إلا بعد سنوات طويلة جداً من الكفاح والنضال والسير على خطى المؤثرين، مستعينين بنصائح الأوائل، وابتكارات السابقين، وعلوم من جاؤوا قبلنا فأسسوا للمعرفة والتقدم.
إن مختلف العلوم والمعارف اليوم لم تأتِ هكذا دون أصل، بل جاءت تتمة لسلسلة طويلة من التطور والنمو المعرفي جيلاً بعد جيلاً، وعصراً بعد عصر، بعدما مرت برحلة مديدة تزخر بالعقبات وخيبات الأمل إلى أن غدت بشكلها المعاصر الذي أصبح أكثر غزارة وعمقاً. ففي الماضي السحيق لم تكن معرفة الإنسان بالطب مثلاً بهذا التشعب الذي هي عليه اليوم، حيث أصبحت هناك تخصصات عدة في مجال الطب البشري، وضمن التخصص نفسه هناك تخصصات أخرى، كما هو الحال حين تذهب إلى طبيب مختص بشبكية العين فحسب، وهلم جراً.
ونفس الشيء ينطبق على واقع الحضارات، حيث إن كل ما نراه حولنا في الوقت الحاضر من تقدم تكنولوجي، وتطور علمي، ورخاء حياتي له أصل يتمثل فيما صنعه وبناه وأسس له من سبقونا من البشر.
إن كل ما هو موجود في هذه الدنيا له أصل، والصورة هي نسخة عن الأصل، والأصالة تستمد أصالتها من غيرها لا من ذاتها. وضمن دورة الحياة والجينات المترابطة هذه فإن استمرار القيم والموروثات هو أساس كل شيء، إن خرج الإنسان عن أصله كان قليل أصل. وإن تنكر شعب من الشعوب لماضيه فلا حاضر له ولا مستقبل. ومن لا يرى الماضي ويتعلم منه، ويحتفي بإنجازات الأولين، ويشكر إسهامات السابقين؛ لن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.
صحيح أننا لا يجب أن نتغنى بالأصل إلى درجة تنسينا دورنا في هذه الحياة، لكن في الوقت ذاته لا بد لنا من الاعتراف بفضل من مهدوا الطريق إلى النجاح والصدارة، ومن وضعوا أسس الحضارة والعلم والمعرفة، فجئنا من بعدهم لنستكمل مشوار النمو والازدهار.
الصورة هي انعكاس للأصل، ولا قيمة لها دون الأصل، والأصل يحتاج إلى الصورة وإلا لا يكون أصلاً. علاقة تكاملية يمتزج فيها الماضي بالحاضر ويكمل كل منهما الآخر وصولاً إلى مستقبل أفضل.
من هذا المنطلق، ينبغي أن نحترم أصالتنا العربية، وجذورنا الراسخة، وقيمنا الموروثة، وعاداتنا الجيدة مدركين أن القمة بانتظار من يدينون بالعرفان للأصل، ويعترفون بفضل المؤسسين، ثم يستكملون الطريق وصولاً إلى مكان أجمل.
ولهذا أيضاً حين نعتني بدواخلنا، ونرتقي فكراً وروحاً، نرى الجمال في كل شيء، ونبصر النواحي الإيجابية في الحياة، فيشع الأصل انطلاقاً من رؤيتنا، ونشع جمالاً لأن الأصل بدوره يزرع فينا فرح الوجود، وألق الحياة. هكذا تكتمل الصورة؛ فلا صورة بلا ظل، ولا ظل بلا صورة؛ لا أصل بلا صورة، ولا صورة بلا أصل.