منذ انقسام غزو الكويت بسبب موقف التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، بدأ العقل الفكري الذي يملك مخزوناً هائلاً من الوعي والتحرير والنقد، في شخصية د. اسماعيل الشطي ثورته الذاتية، التي احتبست في الإطار الحزبي طويلاً، وكان من الممكن كما هو مع غيره، أن تكون هناك جسور بين الإسلاميين الفكريين والإسلاميين الحزبيين، في المشتركات الكبرى، لكن رواية د. الشطي تطابقت مع تجارب الآخرين في الوطن العربي.
حيث يتم العزل الشرس للمستقلين، وإن كان مفهوم التيار هنا أوسع من التنظيم، ولذلك تجد بأن روح التواصل والحضور في شباب التيار الإسلامي العربي الإخواني أو السلفي، لا تقف عند شروط بعض القيادات الحزبية، كما أن بعض القيادات لها روح منفتحة واعية لمتطلبات العقل المسلم.
هذا كان أحد أسباب تغييب صوت د. الشطي رغم حاجة الفضاء النهضوي الفكري له، أما العنصر الثاني الذي يؤثر على تغييب المفكر فهو كونه شارك عضواً في الحكومة، وارتبط بالقرار السياسي، وبالتالي قد يتصادم مع قرارات الإطار الحركي للعمل السياسي المشروع، وهذه مواسم سياسية للمفكر لا أقول أنهُ يُزكّى ولا يُنتقد، ولكن لا يجوز أن يحاسب عليها ويُقصى، في حين الكتلة الحزبية من الإسلاميين وغيرهم، قد يوظف موقفهم مراراً لهذه الحكومة أو تلك.
أما السبب الأخير فهو أن التيار الإسلامي قد يكون له حق مشروع، في رفض سياسات عدائية قمعية من بعض الدول، التي يرزح تحتها الضحايا، لكن اعتبار موقف المفكر الذي يحتاج بالضرورة، إلى منصات ضمن تقاطعات مواقفه السياسية، يُبلغ عبرها رسالته الفكرية، هو مُلزمٌ بمواقف هذا النظام أو ذاك، خطأ بالغ، إلا إذا تورط بالفعل في تأييد جرائم مارستها بعض الأنظمة.
فكما أن هناك مساحة لحركات إسلامية تضامنت ودعمت أنظمة قمعية عربية، وتداخلت معها عقدياً أو سياسياً، فإن المفكر أكثر استحقاقاً للاعتذار له، ما دام يهدف إلى نشر الفكر الإسلامي، وإعادة صياغته في الحياة العربية المزدحمة بنزاع المصطلح، والفقه الدستوري، والمستنزفة في معارك خطيرة، صُنع باسمها ثوابت إسلامية، ليست شرعية، ولا عقلية وطنية.
من هنا نعيد التأكيد لأهمية عودة تلك الشخصيات المميزة، ورفع الحواجز عن مسارات التدافع الفكري والثقافي والسياسي الحواري، لصالح الشعوب، ولخلق محاولات تخفيف للتوتر وجسور مصالحة كليّة أو نسبية، وتبقى الأنظمة العربية الرسمية المتشددة، هي من يتحمل وزر هذا الواقع، وكون د. الشطي في دولة الكويت المميزة بهامشها الديمقراطي، من حيث مساحة الرأي والخلاف السياسي، وعلاقة الحكم المتوازنة مع المعارضة، من حيث المشاعر والاحتواء، رغم الخلاف.
فهذا يشجع على منح المساحة المستحقة للمفكرين المميزين، لإيصال نبضهم وخلاصات فكرهم، عن أزمة الوطن العربي مجتمعة، وعن حالة الخليج العربي والمستقبل السياسي الخطير، وهذه المساحة من صالح الحركة الإسلامية إخوانية أو سلفية، أو توجهات دينية تراثية مذهبية، ومن صالح الأسرة الوطنية بكل اطيافها، لتعزيز ثقافة التعاقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن.
فالأصل أن تُشجّع هذه الحوارات، لخلق جسور إنقاذ للأوطان المتصدعة سياسياً وإنسانياً، أو ذات الخلافات القاسية المضطربة، بدلاً من فرض رأيٍ واحد وتهميش كل منصة فكرية، أو إلهاء الناس بمواسم لا قيمة لها، في صناعة الفرد ومستقبل الوطن.
ولقد أعلن د. الشطي بوضوح موقفه الإيجابي من الانفتاح، فضلاً عن علاقاته الشخصية الحميمية المستمرة مع رفاقه في العمل الإسلامي في الكويت، وعَبَر إلى ضفة مهمة للغاية وهي كيف يعيد الإسلاميون صياغة استراتيجيتهم الفكرية، بناء على خصوصية الأمة العربية، وكيف تكون إسلامياً وعروبياً في آن واحد.
ومجدداً نقول وقد سبق أن حررنا جواب هذا السؤال في بعض الكتب، أن الخروج من فكرة التضاد هو الأصل، فأمم الرسالة الإسلامية العظمى ورابطتها، لا تتعارض مع إعادة فهم التاريخ العربي الحديث والقديم، والذي أبرزه أن العرب حملوا الرسالة الإسلامية، وأسسوا لمفاهيم الحضارة الإنسانية الفارقة، رغم فشلهم السياسي الكبير في عدة دورات، منذ تنحية الشورى وإعلان الاستبداد على رقاب الأمة، والذي حاول معاوية بن يزيد وعمر ابن عبد العزيز اعادتها، ولكن قوة الاستبداد الوريثة حجبتهم.
وهي قضية متداخلة مع الإرث العربي الفكري الضخم، وأهمية تحريره في أزمة الإنسان والأوطان ضرورة، لا في السياسة فقط ولكن في تعريف الجوهر الفكري الذي خَلق الإنسان العربي، وفجّر حضارته، فدعونا نرحب بكل دعاة الوعي وبعودتهم من جديد ونفتح المنابر لهم.