سألت الدكتور محمد قيراط استاذ الإعلام بجامعة قطر على هامش احتفال الوطن بتخريج دفعتين من المركز الإعلامي الواعد «اين موقع السلطة الرابعة» فأجاب سريعا «لا سلطة رابعة ولا خامسة».. صدمتني الإجابة.. وخاصة حين أوضح في كلمته في الحفل معلقا على سؤالي «بأنهم وضعوا سلطة خامسة لمراقبة السلطة الرابعة».. وحقيقة كانت جلسة ثرية على قصرها.. حيث جاء ترتيب جلوسي إلى جواره بإيعاز من الأستاذ رئيس التحرير- وله الشكر موصول- فقد كانت دقائق مليئة بالمعاني جعلتني ادون في ذاكرتي ما واجهت في مهنة المتاعب، كما يسمونها.. وأعاد إلى الذاكرة سؤال ولدي حين كان في المرحلة الاعدادية.. وكان حزينا على سهري الليلي لماذا امتهنت مهنة من لا مهنة له؟.. فأعضبني سؤاله وعددت له عمالقة الصحافة وما تصنعه في بناء المجتمع، فقال: ولكنها تأتي في اطار الادب وهي مهنة من لا مهنة له. فلان ارسل لدراسة الطب في ايطاليا، ففشل، فحول لدراسة الإدارة وفشل وعاد لدراسة التاريخ وفشل، وها هو صحفي يشار اليه بالبنان لانه امتهن مهنة من لا مهنة له..
اغضبني الصغير، فقلت: الصحافة فن والفنون العظيمة لم تنشأ الا في المجتمعات المترفة اللاهبة في ابتداع الاسئلة واللاهثة وراء اعتناق الاجوبة والوصول إلى اليقين.
واقتبست له مقالات محاولا اقناعه بان مهنتي تشبه مهنة اولئك الكبار- ولا اقول العظماء - الذين عاشوا في المجتمعات العربيه في عصورها القديمة وهم ادباء ظرفاء امثال الفرزدق والجاحظ وابن الرومي وابو نواس وابراهيم الموصلي وابو العلاء المعري وابو دلامة وابو علقمة وابو الشمقمق واشعب وجحا وابن سودون، الذين كرسوا بعض ادبهم ونقدهم للسخرية من القواد والوزراء والقضاة والوعاظ والمحدثين والاعراب والنحويين والحمقى والمغفلين والبخلاء والطفيليين والنساء وذوي العاهات، ومن كل شيء تقريبا، وابدعوا في جملة ما ابدعوا، تراثا هائلا من المصنفات العجيبة والكتب الغريبة من الاغاني لأبي فرج الأصفهاني، حتى هز القحوف ليوسف الشربيني، ومن اخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي حتى الفاشوش في حكم القراقوش للأسعد بن مماتي.
وفي عصرنا الحديث انظر إلى احمد شوقي وحافظ ابراهيم وابراهيم طوقان والمنفلوطي والمازني وغيرهم من الكتاب والمبدعين ممن برعوا في الصحافة والادب واشتهروا بالفكاهة الراقية والسخرية الثاقبة والهزل الرفيع من اجل ان تبتسم ويبتسم العلماء اصحاب المعادلات الفيزيائية التي جلبت لنا الدمار في الذرة واصحاب المعادلات الكيميائية التي جاءت لنا بأسلحة الدمار الكيمياوية، نحن الصحفيين مهمتنا ردع المتجاوزين لحقوق الإنسان ومطاردتها بالسخرية والكلمة الجادة الصريحة.
ابتسم الولد ابتسامة ساخرة وقال: مهنتكم انتم، من منكم يجرؤ ان ينتقد نملة مسنودة بجنود السلطان؟ فمن تحدثت عنهم غيروا التاريخ بسخريتهم واولئك هم صناع القادة والساسة لان مهنتهم الكتابة الصريحة والجادة حتى لو كلفهم الامر اعناقهم!
قلت لا اريد الحديث في السياسة، فالصحفي ليس من يعمل في السياسة، الصحفي مهمته نقل الخبر وتحليله ويترك لك استخلاص النتائج، شعرت بهزيمتي أمام الصغير لانني عجزت ان اثبت له عكس نظريته «ان الصحافة هي مهنة من لا مهنة له» وانها في عصرنا الحاضر لا تعدو كونها صف كلمات لا تغضب احدا ولا تجرؤ ان تقول ما يقوله الاطفال في منتدياتهم وان ادباء اليوم ليسوا كأدباء الامس وان شعراء اليوم ليسوا كشعراء الامس. وما قلته فقط هو ان إنسان اليوم ليس كإنسان الأمس.. وان فنان واديب اليوم ايضا ليس كأديب الامس.

بقلم : سمير البرغوثي