روى ابنُ الجوزيِّ في صفة الصفوة، وابنُ أبي الدنيا في مجابي الدعوة:

أنَّ عبدالله بن زياد حبسَ ابنَ أخٍ لصفوان بن محرز، فلم يدعْ صفوانُ شريفاً بالبصرة يرجو منفعته إلا واستشفعه عند ابن زيادٍ ليطلق ابن أخيه، ولكن دون جدوى!

فباتَ في مُصلاَّه حزيناً، وأخذته إغفاءة، فرأى في منامه رجلاً بثيابٍ بيض، فقال له: يا صفوان: قُمْ فاطلُبْ حاجتكَ من وجهها!

فقام فزِعاً، فتوضأ، ثم صلى، ودعا ودعا!

فأرِقَ ابن زيادٍ في ليلته، فقال: عليّ بابن أخي صفوان بن محرز!

فجاء الحرسُ، وجيء بالنيران، وفتحتْ تلك الزنازين، وجيء به!

فقال له: اِنطلِقْ حُراً بلا كفيلٍ ولا شفيع!

وما شعرَ صفوان إلا وابن أخيه يضربُ عليه الباب!

فقال: مَنْ؟

فقال: فلان، ابن أخيكَ!

فقال صفوان: اطلبوا حاجاتكم من وجهها!

وانتم، اُطلبوا الحاجات من وجهها، ما النَّاسُ إلا أسباب لا تضرُّ ولا تنفع إلا بعد أن يأذن ربُّ الأسباب، هذا دون أن ننسى أن الدُّنيا دار أسباب قبل كل شيءٍ، ولكن الأخذ بالأسباب شيء، وتعلُّقُ القلب بها شيء آخر!

نعم أُمِرنا بالتداوي، وبالذهاب إلى الأطباء، ولكن قبل كل شيءٍ أُمرنا أن نعتقد اعتقاداً جازماً لا يُخامره شك أنَّ اللهَ سبحانه هو الشافي، وأنه سبحانه يشفي بالسبب، وبدون سبب، وبخلاف السبب!

وأُمرنا بالعملِ، والسَّعي لتحصيل الرزق، ولكن قبل كل شيءٍ أُمرنا أن نُؤمن إيماناً قاطعاً أنَّ اللهَ سبحانه هو الرَّازق، وأنه تبارك اسمه يرزقُ بالعملِ، وبدون العمل، وأنه يُبارك القليل إذا شاء حتى يجعله كافياً، ويمحقُ الكثير إذا شاء حتى يجعله هزيلاً!

وأُمرنا بعمارة الأرض، وبالزواج وإقامة الأُسَر، ولكن قبل هذا أُمرنا أن نُؤمن أن الزَّواج ليس إلا سبب، قد يُثمر وقد يبور، وكم من أزواجٍ لم يتركوا سبباً للإنجاب إلا وأخذوا به ولكن الخالق العظيم لم يأذن! وكم من أزواجٍ احتاطوا كل حيطةٍ كي لا يُنجبوا مزيداً، فإذا كل حيطة مهتوكة، وكل حذرٍ مُبدد، وكأنَّ الله سبحانه يقولُ لنا بلسان الحال لا بلسان المقال: أنا الله، أخلقُ ما أشاءُ، متى أشاء، وكيف أشاء!

أحمقُ من علَّقَ قلبه بالأسباب، وأشدُ منه حُمقاً من تركَ الأسباب وتمنى على اللهِ الأماني!

أما علمتَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في هجرته قد اتخذ له دليلاً يعرفُ الطريق؟!

هذا ليعلمنا أنَّ اليقين دون بذل السبب المستطاع يقين منقوص!

وأنه يوم أُحدٍ لبسَ درعين لا درعاً واحداً، وهو الذي جاء ليعلمنا أن الموتَ إذا جاء لا يرده درع ولا خوذة، ولكنه بذلَ الأسباب لأنها واقعة في قدر اللهِ!

فاطرقوا باب اللهَ أولاً، أروه أن قلوبكم متعلقةٌ به، ثم بعد ذلك اُسلكوا دروب قضاء الحاجات!