يمرّ عدد من المجتمعات العربية بأزمات اجتماعية واقتصادية خانقة وهو أمر لا يقتصر على المناطق المشتعلة بالنزاعات المسلحة مثلما هو الحال في اليمن أو في ليبيا أو سوريا.
إن ما تعيشه دول مثل تونس ولبنان ومصر والجزائر من انهيار القدرة الشرائية وغلاء الأسعار وانخفاض قيمة العملة لا يتعلق بالصراعات المسلحة بل يرتبط أكثر بآفة الفساد الإداري.
كيف لدول ذات ثروات طبيعية ضخمة مثل مصر والسودان والجزائر مثلا أن تعجز عن توفير الحدّ الأدنى من القدرة الشرائية للمواطن بشكل يخفف من حدّة الاحتقان الاجتماعي؟ وكيف لدول غنية ذات كثافة سكانية ضعيفة مثل تونس ولبنان أن تنهار عملتها واقتصادها بهذا الشكل؟
لا يتعلق الأمر إذن بالحروب والصراعات فقط بل هو مرتبط أولا وقبل كل شيء بانتشار كل أنواع الفساد المالي وانعدام المحاسبة والارتباط الوثيق بين مجال السياسة ومجال الأعمال.
الأخطر من كل ذلك هو وعي الشعوب والحكومات والمسؤولين بآفة الفساد وعجزهم في المقابل عن مواجهتها أو إيجاد حلول قادرة على إيقاف النزيف.
هذا الوضع الخاص يؤكد أن الفساد صار ظاهرة مؤسسة، ومن جهة أخرى لا يتعلق الأمر فقط بفساد الأطراف السياسية والشخصيات المسؤولة في الدولة بل يتعلق أكثر بثقافة الفساد التي أضحت الطابع الأساسي لكل المعاملات الاقتصادية والاجتماعية داخل المجتمع.
بناء عليه فإن التطبيع مع الفساد بكل مظاهره من وساطة ومحسوبية ورشوة وإفلات من المحاسبة وتوظيف للأمن والعدالة والقانون يعتبر من أخطر الظواهر القادرة على تدمير المجتمعات وإسقاط الدول.
ما تعيشه مصر وتونس ولبنان من مظاهر السقوط الاجتماعي والانهيار الاقتصادي ليس إلا نتيجة طبيعية لتعطيل مرفق العدالة والمحاسبة وسلطة القانون لعقود من الزمن. وها هي الشعوب اليوم تدفع وحدها فاتورة باهظة تتمثل في أمواج الهجرة غير الشرعية ونزيف العقول والأدمغة وانتشار الفقر والانحراف بين طبقات المجتمع.
لن يكون ترميم هذا الخراب ممكنا دون تضحيات جسام تعيد ترتيب البيت من أساسه خاصة بعد المآلات الكارثية التي عرفتها موجات التغيير الثورية خلال العقد الأخير من تاريخ المنطقة. فمهما بلغت أحجام المساعدات والهبات والقروض فإنها لن تكون قادرة على إصلاح الورم الهيكلي الذي ينخر أجساد هذه المجتمعات الفاسدة التي تحتاج إلى عملية استئصال واسع لمنع الجسد من الموت والتحلل والانهيار.