روى ابنُ عساكر في تاريخ دمشق، وابنُ حجر في لسان الميزان:
إنَّ العابد الزاهد إبراهيم بن أدهم التقى في مكة العابد الزاهد مثله شقيق البلخي.
فقال إبراهيم لشقيق: ما كان أول إقبالكَ على الله؟
فقال شقيق: سرتُ في بعض الصحارى، فرأيتُ طائراً مكسور الجناح، فقلتُ: سأنظرُ من أين يُرزَقُ هذا؟
فقعدتُ أنتظِرُ لأرى، فإذا بطائرٍ قد أقبلَ وفي منقاره جرادة، فوضعها في فم الطائر مكسور الجناح!
فقلتُ في نفسي: يا نفسُ، الذي سَخَّر هذا الطائر الصحيح لهذا الطائر العليل في هذه الصحراء هو قادر على أن يرزقني حيث ما كنتُ!
فتركتُ التكسب واشتغلتُ بالعبادة!
فقال له إبراهيم: يا شقيق، ولِمَ لا تكون أنتَ الطائر الصحيح الذي أطعمَ العليل، حتى تكون أفضل منه؟
أما سمعتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قوله: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، ومن علامة المؤمن أن يطلب أعلى الدَّرجتين في أموره كلها، حتى يبلغ منازل الأبرار!
فأخذَ شقيقٌ يد إبراهيم فقبَّلها، وقال: أنتَ أستاذنا يا أبا إسحاق!
الإسلام دين جميل ولكن للأسف إن فهمنا له ليس كذلك! وإن من أكثر مفاهيم الإسلام فهماً مغلوطاً هو الزُّهد!
والزُّهد ليس ألا تملكَ المال، وإنما ألا يملككَ المال!
كان عثمان بن عفّان ثريا، وكذلك كان أبو بكر، ولكنهما كانا زاهدين في الدُّنيا، لأنَّ المالَ كان في أيديهما ولم يكن في قلبيهما! وكانا كلما احتاج الإسلام أموالهما بذلاها رخيصةً في سبيله، وهل أعتقَ أبوبكرٍ بلالاً إلا بالمال، وهل جهّزَ عثمان ثلث جيش العُسرة إلا بالمال!
الزُّهدُ ليس في أن تكون قادراً على الكسب وتقعد عنه فهذا هو التواكل، والخنوع!
والزُّهدُ ليس في أن تكون ثيابك بالية وأنت قادر على أن تكون أنيقاً ومرتباً، هذه هي الرثاثة، وإنّ الله يحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده!
والزُّهدُ ليس في أن يكون بيتُكَ متسخاً، ولا أثاثك متهالكاً، وأنت قادر على أن تُنظف وترتب، وتشتري الحسن والجميل، هذا اسمه سوء المعيشة، وقلة التدبير!
والزُّهدُ ليس أن ترضى بالمعدل الجامعي المتواضع، وأنت قادر على التفوق، وهذا اسمه خمول الهمة، وسوء فهم لعمارة الأرض!
الزُّهدُ ليس بمقدار ما تملك، وإنما بمقدار ما تقنع، فرُبَّ فقيرٍ ليس في يده من الدُّنيا شيء، وهي كلها في قلبه، وهذا بينه وبين الزهد مقدار ما بين المشرق والمغرب! ورُبَّ غنيٍّ الدُّنيا في يده، وليس في قلبه منها شيء، فهذا زاهد!
هي قلوبٌ وليست مظاهر، وقد رأى عمر بن الخطاب رجلاً يمشي متماوتاً، فقال لمن معه: ما بال هذا يمشي هكذا؟
فقالوا: هو متنسكٌ يا أمير المؤمنين!
فخفقه عمر بالدرَّة، وقال له: أمتَّ علينا ديننا أماتكَ الله، اعتدلْ في مشيتك، وأظهِرْ عزَّة الإسلام!