كانت القبيلةُ في الجاهلية إذا بُشِّرتْ بشاعرٍ تُضرمُ النّار ثلاث ليالٍ في مضاربها، وهذا- برأيي-عائد لسببين، الأول يتعلقُ بالشاعر، والثّاني يتعلقُ بالشّعر!
فالشاعرُ كان وزير إعلام القبيلة! هو الذي يفخرُ بأنسابها، ويهجو أعداءَها، ويصدرُ بيانات التهديد والوعيد إلى العدوّ، وبيانات التحبب والتقرب إلى الحليف، على هيئة قصائد!
أما الشّعر فقد آمن العربُ– بعد أن عجزوا عن تفسيره- أنه ظاهرة خارقة تتخطى القدرات البشرية!
والبشرُ على مرِّ التاريخ إذا عجزوا عن تفسير ظاهرة طبيعية نسجوا حولها الأساطير! فالفراعنة كانوا يلقون فتاةً جميلةً في النيل إذا فاض ليرضى عنهم ويهدأ! وفي العراق وبلاد الشام كان إذا حدث الخسوف قرعوا الأواني المعدنية ليخاف الحوت الذي بلع القمر ويتركه! والعرب كانوا كغيرهم من الشعوب عدوهم الأول الجهل! ولما عجزوا عن تفسير الشّعر زعموا أنه وحي من الجنِّ للإنس! فقد اعتقدوا أن لكل شاعرٍ شيطانًا يُلقنه الشعر، وأطلقوا عليهم أسماءً! فمسحل بن جندل هو شيطان الأعشى، وهبيد بن الصلادم هو شيطان عبيد بن الأبرص، ولافظ بن لاحظ هو شيطان امرئ القيس، وهادر بن مادر هو شيطان النابغة الذبياني، أما مدرك بن داغم فشيطان افتتح فرعين، فقد كان يوحي للكُميت ولزيدٍ الأسديّ معًا!
والعربُ والغربُ في هذا سواء! وهم ليسوا أفضل حالًا منا! وعنهم حدّثْ ولا حرج! فالشاعر كولردج يزعم أنه بدأ قصيدته كوبلافان فعجز عن إكمالها فأكملها عنه جنيّ! وماسفيلد يدّعي أن جنيًا كتب له قصيدة المرأة تتكلم! ووليام بلاك يقول إن الشياطين سكنته أياماً كتب فيها ديوانًا كاملًا! أما جورج إليوت فكانت تعتقد أنها مسكونة بكائنات من عالم آخر! وجورج إليوت ليس إلا اسمًا ذكوريًا مستعارًا لماري آن إيفانس! أما غوته فيقول إنه كتب روياته كلها وهو في غيبوبة!
وبعد ولادة علم النفس على يد فرويد بسنوات، حاول سيغموند وتلميذه كارل يونغ تطبيق نظرية التحليل النفسي على النتاجات الأدبية، فكانا يعزُوان ظاهرة الإبداع الأدبيّ إلى العقل الباطن! والعقل الباطن أو العقل اللاواعي، أو اللاشعور، هو مفهوم يشير إلى مجموعة من العناصر التي تتألف منها الشخصية، بعضها قد يعيه الفرد كجزءٍ من تكوينه، والبعض الآخر، يبقى بمنأى كامل عن الوعي! والجدير بالذكر أن علماء النفس المعاصرين وإن اتفقوا جميعًا على وجود العقل الباطن إلا أنهم اختلفوا اختلافًا كبيرًا حول وظيفته، واختلافًا أكبر حول آليات عمله!
ولو قمنا بتطبيق نظريات علم النفس على الأدباء، فسنخلص نهاية المطاف إلى أن الإبداع الأدبي حالة مرضيّة! ولكنها حالة مرضيّة مُنتجة! فالذي يقرأ شعر المتنبي بعيني فرويد يستنتج أن المتنبي كان يعاني من حالة تضخم الأنا! فالمتنبي كان يرى نفسه أكبر من الجميع! فهو الذي ينام ملء جفونه عن شوادرها ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصمُ! حتى أنه يرى نفسه أكبر من ممدوحيه الذين كانوا أمراء يُغدقون عليه الأموال، أليس هو القائل في مجلس سيف الدولة يفخر على الجميع بمن فيهم سيف الدولة:
سيعلمُ الجمع ممن ضمّ مجلسنا
بأني خير من تسعى به قدم!
مشكلة علم النفس تكمن في كونه عباءة فضفاضة! لو طبقتَ مبادئه بحرفيتها على شخص قد تثبت أن الشخص يعاني من عقدة ما وضدها! فمن نتاج شاعر يمكن ببساطة أن نثبتَ أنه متواضع ومتعجرف! وأنه تقي وفاجر! وهكذا كان شعر أبي نواس!
شخصيًا لا أنكر أن الكتابة «حالة» يدخل فيها الأديب ساعة إنتاج النصِّ، ولكني لا أجزم أنها حالة لا واعية، هي مجرد طور طبيعي من أطوار النفس البشرية، فنحن مجموعة شخصيات في شخصية واحدة، ونتصرفُ في الحياة وفق أية شخصية نحن فيها! امرأة واحدة قد تكون زوجة وأمًا وبنتًا وأختًا وعمة، وكلنا نعرف أن الزوجة كائن والأم كائن آخر! تمامًا كما أنّ الزوج كائن والأب كائن آخر! صحيح أن هناك خيطا يربط بين شخصياتنا المتعددة إلا أنها لا شك شخصيات مغايرة لبعضها أحيانًا!
لماذا علينا أن نجزم أن آينشتاين حين وضع النسبية كان في كامل وعيه، وعندما اهتدى نيوتن إلى قانون الجاذبية كان واعيًا، وحين اخترع أديسون المصباح الكهربائي كان واعيًا، وحين اخترع نوبل الديناميت كان واعيًا، بينما حين قرض المتنبي قصيدة كان غائبًا عن الوعي؟! والفرق الوحيد بين الحالات آنفة الذكر أن النتاج العلمي مادي محسوس قابل للقياس والتقويم والتجريب، بينما النتاج الأدبي نتاج فكري شعوري تختلف معايير الناس في التفاعل معه، وتقييمه تبعًا لحالة القارئ النفسية، أو لخلفية الناقد الثقافية!
بقلم : أدهم شرقاوي
فالشاعرُ كان وزير إعلام القبيلة! هو الذي يفخرُ بأنسابها، ويهجو أعداءَها، ويصدرُ بيانات التهديد والوعيد إلى العدوّ، وبيانات التحبب والتقرب إلى الحليف، على هيئة قصائد!
أما الشّعر فقد آمن العربُ– بعد أن عجزوا عن تفسيره- أنه ظاهرة خارقة تتخطى القدرات البشرية!
والبشرُ على مرِّ التاريخ إذا عجزوا عن تفسير ظاهرة طبيعية نسجوا حولها الأساطير! فالفراعنة كانوا يلقون فتاةً جميلةً في النيل إذا فاض ليرضى عنهم ويهدأ! وفي العراق وبلاد الشام كان إذا حدث الخسوف قرعوا الأواني المعدنية ليخاف الحوت الذي بلع القمر ويتركه! والعرب كانوا كغيرهم من الشعوب عدوهم الأول الجهل! ولما عجزوا عن تفسير الشّعر زعموا أنه وحي من الجنِّ للإنس! فقد اعتقدوا أن لكل شاعرٍ شيطانًا يُلقنه الشعر، وأطلقوا عليهم أسماءً! فمسحل بن جندل هو شيطان الأعشى، وهبيد بن الصلادم هو شيطان عبيد بن الأبرص، ولافظ بن لاحظ هو شيطان امرئ القيس، وهادر بن مادر هو شيطان النابغة الذبياني، أما مدرك بن داغم فشيطان افتتح فرعين، فقد كان يوحي للكُميت ولزيدٍ الأسديّ معًا!
والعربُ والغربُ في هذا سواء! وهم ليسوا أفضل حالًا منا! وعنهم حدّثْ ولا حرج! فالشاعر كولردج يزعم أنه بدأ قصيدته كوبلافان فعجز عن إكمالها فأكملها عنه جنيّ! وماسفيلد يدّعي أن جنيًا كتب له قصيدة المرأة تتكلم! ووليام بلاك يقول إن الشياطين سكنته أياماً كتب فيها ديوانًا كاملًا! أما جورج إليوت فكانت تعتقد أنها مسكونة بكائنات من عالم آخر! وجورج إليوت ليس إلا اسمًا ذكوريًا مستعارًا لماري آن إيفانس! أما غوته فيقول إنه كتب روياته كلها وهو في غيبوبة!
وبعد ولادة علم النفس على يد فرويد بسنوات، حاول سيغموند وتلميذه كارل يونغ تطبيق نظرية التحليل النفسي على النتاجات الأدبية، فكانا يعزُوان ظاهرة الإبداع الأدبيّ إلى العقل الباطن! والعقل الباطن أو العقل اللاواعي، أو اللاشعور، هو مفهوم يشير إلى مجموعة من العناصر التي تتألف منها الشخصية، بعضها قد يعيه الفرد كجزءٍ من تكوينه، والبعض الآخر، يبقى بمنأى كامل عن الوعي! والجدير بالذكر أن علماء النفس المعاصرين وإن اتفقوا جميعًا على وجود العقل الباطن إلا أنهم اختلفوا اختلافًا كبيرًا حول وظيفته، واختلافًا أكبر حول آليات عمله!
ولو قمنا بتطبيق نظريات علم النفس على الأدباء، فسنخلص نهاية المطاف إلى أن الإبداع الأدبي حالة مرضيّة! ولكنها حالة مرضيّة مُنتجة! فالذي يقرأ شعر المتنبي بعيني فرويد يستنتج أن المتنبي كان يعاني من حالة تضخم الأنا! فالمتنبي كان يرى نفسه أكبر من الجميع! فهو الذي ينام ملء جفونه عن شوادرها ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصمُ! حتى أنه يرى نفسه أكبر من ممدوحيه الذين كانوا أمراء يُغدقون عليه الأموال، أليس هو القائل في مجلس سيف الدولة يفخر على الجميع بمن فيهم سيف الدولة:
سيعلمُ الجمع ممن ضمّ مجلسنا
بأني خير من تسعى به قدم!
مشكلة علم النفس تكمن في كونه عباءة فضفاضة! لو طبقتَ مبادئه بحرفيتها على شخص قد تثبت أن الشخص يعاني من عقدة ما وضدها! فمن نتاج شاعر يمكن ببساطة أن نثبتَ أنه متواضع ومتعجرف! وأنه تقي وفاجر! وهكذا كان شعر أبي نواس!
شخصيًا لا أنكر أن الكتابة «حالة» يدخل فيها الأديب ساعة إنتاج النصِّ، ولكني لا أجزم أنها حالة لا واعية، هي مجرد طور طبيعي من أطوار النفس البشرية، فنحن مجموعة شخصيات في شخصية واحدة، ونتصرفُ في الحياة وفق أية شخصية نحن فيها! امرأة واحدة قد تكون زوجة وأمًا وبنتًا وأختًا وعمة، وكلنا نعرف أن الزوجة كائن والأم كائن آخر! تمامًا كما أنّ الزوج كائن والأب كائن آخر! صحيح أن هناك خيطا يربط بين شخصياتنا المتعددة إلا أنها لا شك شخصيات مغايرة لبعضها أحيانًا!
لماذا علينا أن نجزم أن آينشتاين حين وضع النسبية كان في كامل وعيه، وعندما اهتدى نيوتن إلى قانون الجاذبية كان واعيًا، وحين اخترع أديسون المصباح الكهربائي كان واعيًا، وحين اخترع نوبل الديناميت كان واعيًا، بينما حين قرض المتنبي قصيدة كان غائبًا عن الوعي؟! والفرق الوحيد بين الحالات آنفة الذكر أن النتاج العلمي مادي محسوس قابل للقياس والتقويم والتجريب، بينما النتاج الأدبي نتاج فكري شعوري تختلف معايير الناس في التفاعل معه، وتقييمه تبعًا لحالة القارئ النفسية، أو لخلفية الناقد الثقافية!
بقلم : أدهم شرقاوي