كانَ الأحنفُ بن قيسٍ يُلقَّبُ حليم العرب، وعنه قيل: هذا الذي لا يغضبُ أبداً، وإن غضبَ، غضبَ له مائة ألف فارس لا يسألونه فيمَ غضِبَ!

وقِيلَ للأحنف يوماً: ممن تعلمتَ الحِلم؟

فقال: من قيس بن عاصم، رأيته يوماً قاعداً بفناءِ داره، مُحتبياً بحمائلِ سيفه يُحدِّثُ قومه، فأُتِيَ برجلٍ مُقيدٍ، ورجلٍ مقتول، وقِيل له: هذا ابن أخيكَ قد قتلَ ابنكَ!

فواللهِ ما قطعَ كلامه، فلمَّا انتهى، التفتَ إلى ابن أخيه وقالَ له: يا بُني أثمتَ بربكَ، ورميتَ نفسكَ بسهمكَ، وقتلتَ ابن عمكَ!

ثم قالَ لابنه الثاني: يا بُنيَّ، قُمْ فادفِنْ أخاكَ، وحُلَّ وثاقَ ابن عمكَ، وسُقْ إلى أمكَ مائة ناقة دِية ابنها، فإنَّها غريبة فينا!

خلقَ اللهُ تعالى أبانا آدم عليه السلام من قبضةِ تُرابٍ أخذها من تُرابِ الأرضِ كلها، فجاءَ أولاده على شاكلةِ التُراب، منهم الأبيض والأسود والأحمر والأصفر، وكما جاؤوا مُختلفين في الهيئةِ جاؤوا مُختلفين في الطِباعِ أيضاً، منهم الحليم والغضوب، والكريم والبخيل، واللين والقاسي، والودود والجلف، والعطوف والصلف!

وكل إنسان مفطور على طبعٍ فيه لا يستطيعُ منه فكاكاً، فمُوسى عليه السلام كانَ فيه شيءٌ من الحِدةِ في طبعه، في حين أن عيسى عليه السلام كانَ ليناً جداً، والإيمان لا يُلغي الطبائع وإنَّما يُهذبها، ويضعُ يده عليها فيكمشها أن لا تنفلت، وإذا ما انفلتتْ سُرعان ما أعادَ الأمور إلى نِصابها، ألم ترَ أنَّ مُوسى عليه السلام حين غضبَ رمى الألواح التي كُتِبَتْ فيها التوراة، ولمَّا ذهبتْ عنه سَوْرة الغضبِ أخذها!

فإذا كانتْ طباعُ الأنبياءِ على عِصمتهم مُتفاوتة، فتفاوت طباع غيرهم من الناسِ أَوْلى!

على أنَّ هذا ليسَ مُبرِّراً أن ينساقَ الإنسانُ وراءَ طبعه، فهذه الدُنيا امتحانٌ وكل إنسان مُمْتَحَنٌ بما خُلِقَ فيه!

الحليمُ بطبعه لا يجد مشقة في دفعِ الغضبِ لأنه مفطورٌ على هذا، أما الغضوب فيجاهدُ نفسه والأجرُ على قدرِ المشقة!

والكريمُ يجدُ راحةً في الصدقة، لأنه مفطورٌ على أن يُعطي، أمَّا الذي في نفسه شيء من الحرصِ فيُجاهدُ نفسه على العطاء، والأجرُ على قدرِ المشقةِ أيضاً!

رأيي أن الطباع لا تُكتسب لأنها فِطرة، وحديث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم «إنما الحلم بالتحلُّم» معناه أنه مطلوبٌ منكَ مُجاهدة غضبك، وإمساك زمامِ نفسك، حتى تتصرف تصرُّفَ الحليمِ وإن كانَ هو يتصرفُ سجيةً، وأنتَ تتصرفُ مُجاهدة!

أنفسُكُم هي ميادين جِهادكم، والأجرُ على قدرِ المشقة!