روى ابن عساكر في تاريخ دمشق:
إنَّ بديحاً مولى عبد الله بن جعفر قال: خرجتُ مع عبد الله بن جعفر في بعض أسفارنا، فنزلنا بجانب خيمة لرجل من بني عُذرة، فلم نلبثْ طويلاً حتى جاء يسوق ناقته، فسلَّمَ علينا، وقال مرحباً بالضيوف، وما سألنا من نحن ولا ما نريدُ، وإنما تناول شفرةً، فذبح ناقته، وأعطانا لحماً كثيراً، وقال: كلوا بالعافية!
فلما كان اليوم الثاني: جاء في الظهيرة على ناقةٍ له، فقال: مرحباً بالضيوف، وتناول شفرة، فذبحها، وأعطانا لحماً كثيراً!
فقلنا له: ما زال عندنا من لحم البارحة.
فقال: ضيوفي لا يأكلون طعام البارحة!
فلما كان اليوم الثالث، فعلَ مثلما فعلَ في يوميه من قبل!
فلما أردنا الانصراف، قال لي ابن جعفر، ما معكَ؟
فقلتُ: أربعمئة دينار.
فقال: اذهبْ بها إلى الشيخ العُذري؟
فذهبتُ بها، فلم أجده، فناولتها للجارية، فقالت: ألا تستحي، إنَّا لا نأخذُ أجراً من ضيوفنا!
فعدتُ إلى ابن جعفر، فأخبرته، فقال لي: عُدْ، فإن لم تقبلها منك فاترك المال عند باب الخيمة، وتعالَ!
ففعلتُ، وعدتُ إليه، ومضينا في طريقنا.
فسرنا ساعة، فإذا راكب من بعيد ينادي علينا، فوقفنا، فإذا به الشيخ العذري، فرمى إلينا بالمال، وقال: نحن لا نأخذُ أجراً من ضيوفنا! وعاد راجعاً.
فكان عبد الله بن جعفر يُحدِّثُ بعد ذلك بالقصة، ويقولُ: ما غلبنا بالكرمِ إلا الشيخ العُذري!
وحدها مواقف النُبل تبقى عالقةً في الأذهان، أما ما تبقى فتردمه رمال الأيام حتى لا يبقى من الناس أثر!
لن يذكركَ أحدٌ إلا بمواقفك، فإياكَ أن تكون غصَّةً في قلب أحدهم!
اُتركْ في كل شخصٍ عرفكَ موقفاً نبيلاً لا ينساكَ فيه! الأمر لا يحتاج إلى مواقف خارقة، ولا إلى بطولات روائية، يكفي أن يكون المرءُ إنساناً ليترك أثراً!
في حادثة الإفك، دخلت امرأة من الأنصار على أمنا عائشة، فلم تكلمها كلمةً واحدة، وإنما جلستْ تبكي معها! كانت عائشة كلما حدَّثت بالقصة قالت: لا أنساها لها!
وعندما تاب الله على كعب بن مالك بعد تخلفه في غزوة تبوك، دخلَ المسجدَ فقام إليه طلحة يهرولُ، فكان كعبٌ يقول: لا أنساها لطلحة!
وعندما رُجمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الطائف، عاد إلى مكة فمنعته قريش من دخولها، فأجاره مطعم بن عديٍّ وهو مشرك وأدخله مكة، وعندما نظرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أسرى المشركين بعد غزوة بدر قال: لو كان مطعم بن عدي حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له!
دمعة مواساة تركتْ أثراً في قلب عائشة، وهرولة طلحة ملأتْ قلب كعبٍ حباً، وموقف نُصرة لم ينسه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وإن ماتَ الذي صنعه له!
تخيروا اللحظات التي ينكسرُ فيها الناس، تحينوا مواقف قضاء الحاجات، وحدها هذه المواقف تبقى!