في الكثير من الأحيان يواجه المرء تحديات وصراعات ومواقف تفوق طاقة تحمله تجعله غير قادر على فهم واستيعاب ما يدور من حوله فيدخل في حالة من الضياع والتشتت والصراع مع الأفكار والهواجس فيشعر بالحاجة إلى مشاركة طوفان المشاعر الذي يمر به إلى طرف موثوق ليخفف عنه وطأة الألم ويساعده على البحث عن حلول توصله إلى بر الأمان، البعض يأخذ من الأصدقاء ملجأ، وآخرون يهرعون إلى الأهل والأحبة يشكون لهم حظهم العاثر ويصرحون أمامهم بما يختلج في قلوبهم من عواطف وهموم الأيام، علّ من أذن تصغي السمع وقلب يشاركنا ما نحس به. ويبدو أن الفضفضة إلى الآخرين أشبه ما تكون بنوع من حاجة ملحة أصيلة في دواخلنا، فغالبية الناس لا يستطيعون كتمان ما يفكرون فيه ويشعرون به؛ لذلك يسارع الواحد فيهم إلى البوح بما يضمره أمام القاصي والداني.
كثيرون هم من يعبرون عن أعمق مشاعرهم أو نواياهم ومخططاتهم أمام أيّ كان، دون أن يتنبّهوا أنهم بذاك الفعل فتحوا أبواب المصائب على مصراعيه. فكم من إنسان استغل معلومة أدليت بها أمامه، أو تصريحاً بحت به قبالته ضدك. هل تذكر آخر مرة أخبرت فيها صديقاً لك عن كونك تعاني من الخجل والتلعثم في المناسبات الاجتماعية وأثناء التحدث إلى الجنس الآخر، فقام بالسخرية منك في مناسبة لاحقة أمام جمع من الناس؟!
عندما تبوح بأسرارك للناس من حولك، وتكشف خبايا مشاعرك، وتخبرهم بكل ما يطوف في عقلك ويعشش في قلبك؛ فإنك بذلك تسلمهم مفاتيح حياتك دون أن تدري، وتعطيهم سلاح الجريمة الذي سيستخدمونه تجاهك في الوقت المناسب. قد يكون الوقت هو مشاجرة تحصل مع أحد الأصدقاء القدامى يستغلها لفضح أسرارك، أو خصومة مع شخص تحبه ويحبك لن يتوانى عن استغلال نقاط ضعفك رغم ما يكنه لك من مشاعر المحبة الخالصة.
الفضفضة بتعبير بسيط هي نوع من التعري أمام الناس، قد تغريك لذتها لكن عواقبها وخيمة لا تُحمد عقباها. هذا لا يعني أن البشر أشرار، وأنك الملاك الوحيد. فحتى أنت يمكن أن تستخدم دون وعي وفي لحظة غضب معلومة خطرة أو سرّاً مهمّاً أخبرك به أعز الناس لك ضده وقتها، فتهدم ما كان بينكما من ود واحترام.
نحن لسنا ملائكة، لذا وجب الانتباه وحفظ بعض الأشياء لأنفسنا. مهما كانت صداقتك متينة مع بعض الأشخاص، ومهما كان الحب الذي تكنه للطرف الآخر، يجب ألا نصرح بكل شيء. لا تكن صفحة مفتوحة يسهل قراءتها، بل كن كتاباً مغلقاً يصعب معرفة ما تفكر فيه وتشعر به. هذه قاعدة لها استثناءات بسيطة؛ فلا يجب أن تكذب على شريك الحياة وتخبره شيئاً مختلفاً عن الذي تفكر فيه، أو تدعي أنك لا تحس بالضيق أمام والدتك التي تحبك أكثر من الدنيا كلها، أو تتجنب أوفى الأصدقاء فلا تشركه في بعض أحزانك. لكن حتى مع وجود تلك الاستثناءات، فلا استثناء من قاعدة إخبار كل شيء لأي شخص كان. فهمها كنت تكن مشاعر الحب والاحترام تجاه الآخر، لا يجب أن تخبره بكل صغيرة وكبيرة. عندما يكون الأمر غاية في الأهمية يمكنك أن تُشرك الموثوقين من باب الثقة والصدق والإخلاص. لكن احتفظ ببعض الأفكار والمشاعر لنفسك؛ لأنك أحق بها من أي مخلوق على وجه هذه البسيطة واجعل من قلمك ودفترك خير رفيق لك في أوقات الألم والضيق وبح لأوراقك بأسرارك فهي كتومة صادقة تتشرب ألمك وتحفظه بين سطورها وتساعدك على تجاوز الصعاب وتجعلك أكثر قدرة على تحليل المشاكل والوصول إلى حلول ومخارج مهما كانت صعوبة ما تمر به.
ذاتك هي الملجأ الأول والأخير لكل هواجسك وآلامك ومشكلاتك. السعادة تنبع من داخلك، وحل المشكلات والتغلب على نقاط الضعف يأتي من أعماق الذات لا من الخارج. أحب بعمق وصادق بعمق، لكن حتى العمق له حدود.
وبالختام تذكر أنك عندما تفضفض لعزيز تنسى أن لكل عزيز عزيزاً، وتذكر أن هنالك أمورا في هذه الحياة لا يشملها قانون الفضفضة لأي كان مهما كان قريباً أو كتوماً.