سُئلَ الشعبيُّ عن مسـألة، فقال: لا أعلم!
فقيل له: أما تستحي أن تقول لا أعلمُ، وأنتَ فقيه العراق؟!
فقال: إن الملائكة لم تستحِ حين قالتْ: «سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا»!
الشعبي هو عامر بن شراحيل الكوفيّ، من أئمة التابعين، فقيه ومحدِّث، وُلد في خلافة عمر بن الخطاب، وولاه عمر بن عبد العزيز القضاء، قال عنه الذهبيّ في سير أعلام النبلاء: كان إمامًا حافظًا فقيهًا ثبتًا متقنًا!
وقال عنه ابن حجر: ثقة مشهود وفقيه فاضل
وقال عنه ابن سيرين: قدمتُ الكوفة وللشعبي يومئذ حلقة عظيمة والصحابة يومئذ كثير!
ورغم هذا لا يجد الشعبي حرجًا أن يقول: لا أعلم
أما نحن فنعاني من عقدة الإفتاء، في كلٍّ منا مفتٍ صغير، تجدون الواحد منا لا يعرف في أمور الفقه أكثر من الوضوء ولا يتورع أن يعطيك فتوى جازمة لم يتفق عليها الفقهاء!
تجدون الذي لا يعرف حروف الإخفاء من حروف الإظهار يُفتي في الأسهم وأسواق المال وعقود التجارة والمرابحات!
وتجدون الذي لا يعرف معنى متفق عليه، يلفُ رجلًا على رجلٍ كأنه أبو حنيفة ويقول: هذا حديث ضعيف! لا لشيء سوى أن الحديث يتعارض مع الفتوى التي سبق وأتحفنا بها!
وتجدون الذي إذا سمعتموه يقرأ القرآن فيرفع وينصب ويجزم على هواه فتحسبونه أحد أصحاب القراءات السبع يفتي في المواريث ومصارف الزكاة!
كنتُ مرة عند الحلاق انتظر دوري في عداد المنتظرين، والجلسة عند الحلاق عادة ما تكون حلقة علم يناقش فيها فقهاء «النص كم» أمور الفقه المستجدة، وكان يومها الموضوع المطروح للمدارسة الربا الذي تعطيه البنوك، وعندما تشعبت آراء الجهابذة، كان لا بد لأحد أن يحسم الموضوع، عندها تدخل أبو ماهر حبر الأمة وقال: خُذ ما يعطيك إياه البنك ولكن لا تأكله، اشترِ به بنزينًا للسيارة، واملأ منه قارورة الغاز، وادفع ثمن المنظفات والشامبو ومعجون الأسنان، فإنما قال الله: «ولا تأكلوا الربا» وأنا أفعل هذا!
حسنًا قُضي الأمر الذي فيه نستفتي، إن حبر الأمة يفعل هذا!
أما عن مجالس النساء فحدث ولا حرج، في كل مجلس تجد عائشة وحفصة وأسماء! جدتي وحدها لو جمعتُ فتاويها في كتاب لفاقت مجلداته عدد مجلدات فتح الباري على شرح صحيح البخاري!
لماذا إذا مرضنا نذهب من طبيب إلى طبيب، وإذا تعطلت سيارتنا ذهبنا من ميكانيكي إلى آخر، وإذا أردنا أن نبني بيتًا سألنا عن أمهر مهندس، وإذا تعلق الأمر بالدين فكل واحد فينا فقيه مجتهد، ومرجح بين النصوص لا يُشقُّ له غبار!
صعد عالمٌ المنبر، فسئل عن مسألة، فقال: لا أعلم
فقال له رجل من الحضور: هذه المنابر يرتقيها من يعلم
فقال له: لقد ارتقيتُ على قدر علمي ولو ارتقيتُ على قدر جهلي لبلغتُ السماء!
وجاء رجل من العراق إلى المدينة يسأل الإمام مالك عن قضايا فقهية، فأجاب الإمام عن بعضها وسكت عن بعضها
فقال له: ما أقول لأهل العراق يا مالك؟
فقال له قل لهم إن مالكًا لا يعلم!
ومن طريف ما قرأت، أن أحد حكماء الجاهلية كان مقصد الناس في كل أمرٍ أشكل عليهم، فقصده ذات يوم ثلاثة إخوة وقالوا له: إن أبانا مات وتركنا نحن الثلاثة، وآخر في البيت له عضو تأنيث وعضو تذكير، ونحن لا نعلم أيرثُ إرث الذكور أم الإناث؟
فلمّا لم يعرف الحكيم جوابًا أبقاهم عنده حتى يرى حكمًا، فمكثوا عنده شهرًا يطعمهم ويسقيهم، حتى ضاقت جاريته بهم ذرعًا، وقالت للحكيم: إما أن تفتيهم أو تردهم إلى أهلهم فما أراك إلا قد حبستهم!
فقال: لقد جاؤوني بشائك المسألة!
فقالت له: فما خبرهم، لعلي أجد لكَ حلًا!
فضحك ضحكة الساخر، ولكنه لم يجد بُدًّا أن يخبرها!
فقالت له: الأمر بسيط، احكم فيه من مباله! فإن بال واقفًا يرث إرث الرجال، وإن بال قاعدًا يرث إرث النساء!
فأعجبه رأيها وقضى به!
الشاهد في القصة أن الحكيم كان من أهل الجاهلية، لا يرجو جنة ولا يخاف نارًا، ومع هذا تورع أن يُفتي بما لا يعلم! فما بالنا نحن نتجرأ على الفتوى، فنفتي بما نعلم وما لا نعلم؟!
بقلم : أدهم شرقاوي
فقيل له: أما تستحي أن تقول لا أعلمُ، وأنتَ فقيه العراق؟!
فقال: إن الملائكة لم تستحِ حين قالتْ: «سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا»!
الشعبي هو عامر بن شراحيل الكوفيّ، من أئمة التابعين، فقيه ومحدِّث، وُلد في خلافة عمر بن الخطاب، وولاه عمر بن عبد العزيز القضاء، قال عنه الذهبيّ في سير أعلام النبلاء: كان إمامًا حافظًا فقيهًا ثبتًا متقنًا!
وقال عنه ابن حجر: ثقة مشهود وفقيه فاضل
وقال عنه ابن سيرين: قدمتُ الكوفة وللشعبي يومئذ حلقة عظيمة والصحابة يومئذ كثير!
ورغم هذا لا يجد الشعبي حرجًا أن يقول: لا أعلم
أما نحن فنعاني من عقدة الإفتاء، في كلٍّ منا مفتٍ صغير، تجدون الواحد منا لا يعرف في أمور الفقه أكثر من الوضوء ولا يتورع أن يعطيك فتوى جازمة لم يتفق عليها الفقهاء!
تجدون الذي لا يعرف حروف الإخفاء من حروف الإظهار يُفتي في الأسهم وأسواق المال وعقود التجارة والمرابحات!
وتجدون الذي لا يعرف معنى متفق عليه، يلفُ رجلًا على رجلٍ كأنه أبو حنيفة ويقول: هذا حديث ضعيف! لا لشيء سوى أن الحديث يتعارض مع الفتوى التي سبق وأتحفنا بها!
وتجدون الذي إذا سمعتموه يقرأ القرآن فيرفع وينصب ويجزم على هواه فتحسبونه أحد أصحاب القراءات السبع يفتي في المواريث ومصارف الزكاة!
كنتُ مرة عند الحلاق انتظر دوري في عداد المنتظرين، والجلسة عند الحلاق عادة ما تكون حلقة علم يناقش فيها فقهاء «النص كم» أمور الفقه المستجدة، وكان يومها الموضوع المطروح للمدارسة الربا الذي تعطيه البنوك، وعندما تشعبت آراء الجهابذة، كان لا بد لأحد أن يحسم الموضوع، عندها تدخل أبو ماهر حبر الأمة وقال: خُذ ما يعطيك إياه البنك ولكن لا تأكله، اشترِ به بنزينًا للسيارة، واملأ منه قارورة الغاز، وادفع ثمن المنظفات والشامبو ومعجون الأسنان، فإنما قال الله: «ولا تأكلوا الربا» وأنا أفعل هذا!
حسنًا قُضي الأمر الذي فيه نستفتي، إن حبر الأمة يفعل هذا!
أما عن مجالس النساء فحدث ولا حرج، في كل مجلس تجد عائشة وحفصة وأسماء! جدتي وحدها لو جمعتُ فتاويها في كتاب لفاقت مجلداته عدد مجلدات فتح الباري على شرح صحيح البخاري!
لماذا إذا مرضنا نذهب من طبيب إلى طبيب، وإذا تعطلت سيارتنا ذهبنا من ميكانيكي إلى آخر، وإذا أردنا أن نبني بيتًا سألنا عن أمهر مهندس، وإذا تعلق الأمر بالدين فكل واحد فينا فقيه مجتهد، ومرجح بين النصوص لا يُشقُّ له غبار!
صعد عالمٌ المنبر، فسئل عن مسألة، فقال: لا أعلم
فقال له رجل من الحضور: هذه المنابر يرتقيها من يعلم
فقال له: لقد ارتقيتُ على قدر علمي ولو ارتقيتُ على قدر جهلي لبلغتُ السماء!
وجاء رجل من العراق إلى المدينة يسأل الإمام مالك عن قضايا فقهية، فأجاب الإمام عن بعضها وسكت عن بعضها
فقال له: ما أقول لأهل العراق يا مالك؟
فقال له قل لهم إن مالكًا لا يعلم!
ومن طريف ما قرأت، أن أحد حكماء الجاهلية كان مقصد الناس في كل أمرٍ أشكل عليهم، فقصده ذات يوم ثلاثة إخوة وقالوا له: إن أبانا مات وتركنا نحن الثلاثة، وآخر في البيت له عضو تأنيث وعضو تذكير، ونحن لا نعلم أيرثُ إرث الذكور أم الإناث؟
فلمّا لم يعرف الحكيم جوابًا أبقاهم عنده حتى يرى حكمًا، فمكثوا عنده شهرًا يطعمهم ويسقيهم، حتى ضاقت جاريته بهم ذرعًا، وقالت للحكيم: إما أن تفتيهم أو تردهم إلى أهلهم فما أراك إلا قد حبستهم!
فقال: لقد جاؤوني بشائك المسألة!
فقالت له: فما خبرهم، لعلي أجد لكَ حلًا!
فضحك ضحكة الساخر، ولكنه لم يجد بُدًّا أن يخبرها!
فقالت له: الأمر بسيط، احكم فيه من مباله! فإن بال واقفًا يرث إرث الرجال، وإن بال قاعدًا يرث إرث النساء!
فأعجبه رأيها وقضى به!
الشاهد في القصة أن الحكيم كان من أهل الجاهلية، لا يرجو جنة ولا يخاف نارًا، ومع هذا تورع أن يُفتي بما لا يعلم! فما بالنا نحن نتجرأ على الفتوى، فنفتي بما نعلم وما لا نعلم؟!
بقلم : أدهم شرقاوي