كانَ عبدُ الله بن المبارك يترددُ كثيراً إلى طرسوس لأنها كانتْ أرض ثُغور، وكانَ ينزلُ قريباً منها في الرقةِ في خان، وكانَ هناك شاب يخدمه، ويسمع منه الحديث. وقدمَ ابن المُبارك مرةً الرقةَ ونزلَ الخان فلم يجدْ الشاب، وكانَ مُستعجلاً للجِهاد فلم يسألْ عنه، فلما عادَ سألَ عنه، فقِيل له: هو محبوسٌ في دَيْن!
قال: كم دينه؟
فقالوا: عشرةُ آلافِ درهم!
فلم يزلْ يستقصي عن صاحبِ الدَّيْنِ حتى وصلَ إليه، وأدَّى المالَ إليه وأقسمَ عليه أن لا يُخبر بذلك أحداً.
وخرجَ الشابُ من السجن، وقِيل له إن عبدَ الله بن المُبارك قد سألَ عنك، فجعلَ الشابُ يبحثُ عنه، فلما لقيه قالَ له ابن المُبارك:
أين كنتَ يا فتى؟ لم أرَكَ في الخان؟
فقال: كنتُ محبوساً في دَين!
فقال له: وكيف كانَ خلاصك؟
قال: جاء رجلٌ وقضى ديني ولم أعلمْ به حتى أُخرِجْتُ من الحبس!
فقالَ له: احمد الله أن سخَّرَ لكَ هذا!
ولم يُحدِّث صاحب الدَين بهذه القصة إلا بعد موت عبد الله بن المُبارك، حينها عرفَ الفتى من قضى عنه دَينه!
ليس بالضرورة أن توثقَ كل خير تفعله، أوكلَ الله تعالى الملائكة بهذه المهمة، واطمئن فلن يضيعَ عليكَ شيء، كلهُ مكتوبٌ في كتابٍ لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها!
وإن جهلَ الناسُ صنيعكَ، يكفي أن الله يعلم!
روى الذهبيُّ في سِيَرِ أعلامِ النُبلاء أنه كانَ في جيشِ هارون الرشيد عشرون ألفَ مُجاهد، لا يكتبون أسماءهم في دِيوانِ الجُند، فلا يأخذون رواتبهم كي لا يعرفهم أحد إلا الله!
وجاءَ السائبُ بن الأقرعِ إلى عُمر بن الخطاب ينعى إليه شُهداء المُسلمين في معركةِ نهاوند، فعدَّ أسماءً من أعيانِ الناسِ وأشرافِهم، ثم قال: وآخرون أفناءَ الناسِ لا يعرفهم أمير المؤمنين!
فبكى عُمر وقال: وما ضرَّهم ألا يعرفهم عُمر، إن اللهَ يعرفهم!
أكثروا من الخبايا الصالحة، والأعمالِ التي لا ترصدها الكاميرات، ولا يشهدها الناس، فإنَّ الله يُحبها، وما تُضاءُ القبورُ إلا بمثلها!