في فصل الإرادة يتداخل حديث روسو في التربية، المفترض أنه موجه لحياة الطفولة، مع الفرد المكتمل عمرياً، يبحث مجدداً عن قواعد التأسيس عن الإنسان الحر، لكنه يطرح مبدأً مهماً في تحديد هذه الإرادة في حياة الذات، ويتساءل عن غاية السعادة كيف نعيّن جوهرها وكيف نصل إليها، بين الرغبة والاستطاعة، فإذن يجب أن يمارس الإنسان حريته من داخله ومن ذاته، وحتى لا يصل إلى الشقاء، فليمتنع عن الرغبات الجامحة في المخيّلة، ويلتزم بما هو ليس فوق القدرة المتاحة في العالم، فلا يتخطاه.
ثم يعلن روسو الإيمان بالطبيعة كمرجع، كون تنظيم الطبيعة لحياة البشر هي التي تحل جميع متناقضات البشر، وبالتالي تحل جميع مشاكلهم، لاحظ هنا مجدداً أن روسو يعود إلى ما هو خارج إطار البشرية، كمرجع لحياتهم، وهو هنا يتحدث في الفصل الذي يعتني بتاريخ تشكل الإرادة في البشر، في كتاب (إميل) لحياة الطفولة، وهناك ما يُعزز هذه القناعة، تعرض له روسو في العقد الاجتماعي، في حديثه عن مرجعية المشرّع الدستوري والبرلماني.
وهو يحرر هنا مسألة مفصلية لديه، وهي أن المقابل للطبيعة (أي الفطرة) وهي تعني ما خلق الله نظام الكون عليه، في تعريف الفلسفة الإسلامية، يعاكسها متابعة البشر، فإما أن تُتابع الإنسانية رسائل ووحي الطبيعة التي فُطرت، كمرجع لإرادة الناس وتحديد طاقاتهم، أو تُتابع البشر.
ومتابعة البشر تقتضي عند روسو اختلال الترتيب المنطقي، والوصول إلى السقوط في كافة الرذائل، لتناقض البشر ونزواتهم، في حين أن تبعية الأشياء ويَقصد بها دلائل الخلق للطبيعة، هي ما تمنحك الحرية وتعزّز الإرادة العامة التي يكافح روسو لأجلها.
رغم أن روسو يبرر بأن الأشياء أي (القانون الطببعي) خالية من الأخلاقيات، وهذا غير صحيح، فحين يتم التأمل في نظام الكون ودلائله، نجد المركز الأخلاقي قائماً، وهو يقول أن الطبيعة هي المرجع الأسلم من البشر، متحدي الصفات، العاجزين عن خلق الفرق الاخلاقي لأنفسهم، وأن التبعية لهم، تعني سلب حرية البقية.
وهذا بالضبط معنى رفع مرجعية التشريعات، إلى نظام الفطرة الكوني، وهنا مركز اختلاف روسو عن الفلسفة الإسلامية، وهي أن النظام الكوني ذاته، يُدلّل على وجود خالق له، هو الأدرى بمصالح الخليقة، والأعلم يقيناً بنوازعها، وروسو لا ينكر الخالق، بل هو حاضرٌ عنده في كتبه.
ولكن روسو تسيطر عليه فكرة هيمنة دين القيصر، التي منحت الحاكم الإله في الزمن القديم، وهي تتكرر اليوم في عالم الحداثة في صورة الإنسان الإله، هذا الإنسان الإله سيتلاعب بهذا المرجع (البشري) ويعود مجدداً لمرجعية الناس ونزواتهم، وهي قضية محسومة في القرآن وفي سيرة الخلفاء الراشدين ووصايا النبي صلى الله عليه وسلم، من حيث تقرير أن السلطة السياسية هي أجيرة عند الأمة، ليس لها صلاحيات التأله أو التقديس المفضي إليه.
وبالتالي فإن تحديد مرجعية العلم الأعلى غير الممكن بشرياً، هو علم المعرفة الذي يتجاوز حدود التجربة العلمية، إلى إدراك دلالة يقينها وخيريتها في الناس والأرض، وهو لا يُعطي في الأصل تزكية مطلقة للحاكم، بل العكس، فهو يساويه من منظور حقوقي مع العامة، وإنما طغيان الحاكم في تاريخ المسلمين، هو من غيّر هذه المعادلة.
وهي السر في أن تلك الحكومات المتعاقبة منذ أن أخلّت بمكانة حق الفرد، منذ عهد الأمويين حتى اليوم (مع استثناءات محدودة)، أسقطت ركن المساواة الحقوقية، والتي حددها مصدر التشريع المقدس، ليس لسلب حقوق الناس وانتزاع حرياتهم، ولكن لمنع الذات الحاكمة والمشرعة، من التغول على البشر، وتعميدهم بموجب الصلاحيات في مقام الآلهة التي لا تُسائل ولا تُحاسب.
وهو مدار يؤكده اعتماد المسلمين إجماعاً، إعادة مسمى العهد الراشد، إلى عمر بن عبد العزيز، رغم من سبقه من خلفاء بني أمية، وإنما وقع الخلاف في الحسن بن علي ومعاوية بن يزيد بن معاوية، لقصر مدتهم، وإلا فهم مشمولون بالعهد الراشد لذات العلّة.
ولعلم أولئك السلاطين والحكام، بأن هذا المدار محسوم في الشريعة الأصلية غير المبدلة، لجأوا إلى تأويل النص الديني، أو استخدام علماء وظيفيين لهذا الغرض، الذي يمنحهم فوق حق المواطنة الأممية أو القُطرية، واغتصاب تشريعات باسم الإسلام، فإذن هذا الحق التشريعي في الأصل الإسلامي، هو الضامن الحقوقي الطبيعي للإرادة الحرة، وهو ما كان يبحث عنه روسو في جمهوريته النظرية قبل الثورة الفرنسية.