إن العيد موسم فرح وشكر بعد الطاعات، فهو يأتي في الفطر بعد موسم دورة تجديد الروح في رمضان، والتذكرة بفلسفة الذكر الحكيم في حياتنا، وبربطنا بجوهر الروح لا جسور الماديات، وهو في فسحة الله للمسلمين وفي سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، بهجة ننشرها بين الناس وبين أطفالنا، أي أن مواسم الطاعات، تُعقب بروح الفرح والتضامن والجسور القلبية إلى الآخرين، وهو ما لا يعيشه المختصمون، وبالطبع هناك ظروف لأصحاب الخصومة، من مظالم وغيرها، ربما بقي حق العتب بل حق المظلمة عند البعض، فلا تعالجه بسمة صفراء ولا كلمة تحية عارضة.

غير أن الأصل هو روح التسامح ومد اليد بالسلام، الذي يُشرع أن يقرن بالتجاوز عن المخطئ والمقصّر، وهكذا تكون الكلمة الطيبة، والتهنئة الدافئة مدرج للناس لكي يطووا صفحات آلامهم مع بعضهم، ولكي تُخرج نفسك من روح التأزم، من قريب أو صديق وتلقي بالذاكرة الثقيلة السوداء أو المتشككة من موقف الآخر، عن ظهرك وتنطلق لمستقبلك، هنا النقطة المهمة وهي استثمار العيد لتريح القلب من دائرة هموم أكبر، وظنون وشكوك عصفت بوجدانك الداخلي، وربما شعر بها الشخص الآخر وقد ذهب الزمان، وأنت تحت هذه المشاعر تعصف بك.

دع القلب ينطلق للحياة من جديد، ويصفو من الأكدار ولا تُعلقه بتواريخ تجدد الهم عليه، ما الفائدة من ذلك، هنا التسامح ليس رسالة ود لإصلاح بين شخصين ولا تقريباً لأركان المجتمع أو الأسرة فقط، ولكنه فرصة لذاتك وروحك لكي تسمو على آلام التاريخ الشخصي، وتنفتح على ربيع العلاقات.

ونعترف هنا بأن علاقات الناس في هذا الزمن أضحت أصعب، وأن انشغالهم بجسور التكنولوجيا، وما يترتب عليها من بعثرة التصورات، واضطراب الرؤى حول الأحداث أو الظروف الاجتماعية، قد عقّد العلاقات الإنسانية التي بَسَطَها الإسلام.

والتي تحوي كنوزاً من مسالك الآداب والأخلاق والذوقيات، ترتفع بالمجتمع إلى مستوى من الاحترام والتسامح، ومراعاة الخصوصية، تنطلق من دافع أخلاقي ذاتي، وليس لمراعاة مصلحة مادية مع هذا الطرف أو ذاك، ويكفيك في ذلك قول الله عز وجل (وقولوا للناس حُسناً) وقوله صلى الله عليه وسلم من حُسن إسلام المرأ تركه مالا يعنيه، وقوله عليه الصلاة والسلام: أفشوا السلام، فهذه الوصايا وغيرها، هي نظام تعامل اجتماعي راقٍ، لو طبقه المسلمون لارتفع سقف مجتمعاتهم وتهذبت، فضلاً عن تحريم الغيبة والنميمة والبهتان، وتحذير الشارع من الإشاعة ونشرها بين الناس.

غير أن نزعات النفس وقلقها وتحفّزها، من بروز غيرها أو حظه، أو تعظيم مكانة الذات مقابل الآخرين تهدم هذه المعاني بين أبناء المجتمع، فيُقدم حظ النفس وابرازها، على حب الخير للآخرين، وأمل توفيقهم فيما فتح الله عليهم من تميّز، ولذلك تزدحم المشاعر في حياة الإنسان وتصطك في مواقف عديدة بين القربى أو زملاء العمل، أو الأقران، فضلاً عن تحول الحياة الشخصية إلى مسرح يشارك فيه الآخرون، عبر مواقعنا في السوشل ميديا، ويختلط المحب بالمهتم بالمراقب بالفضولي بالكاره.

وهذا يوجب على الإنسان مجاهدة النفس، والخروج بها إلى أفضل مسلك ممكن، من حيث إنك قد لا تملك نزع أثر توقيعات السوء على قلبك أو مشاعرك، ولكن ذلك لا يجعلك تُبقي القطيعة بينك وبين الآخر، وأن تجتهد بالدعاء له بالتوفيق وبمعالجة مشاعرك القلبية، بان تصدق في تمني الخير له.

ومما يساعدك في تصفية قلبك واستثمار العيد لذلك، أن تؤمن بأن كل فاتورة من الظن والاحتقان، في حياتك الاجتماعية هي رصيد يُنهك قلبك، فحرره من ذلك ومزق تلك الحسابات، ليصفو يومك، وتمضي مطمئناً في اقدار الله عز وجل.

وقد يكون ذلك المجتمع أو الشخص في منطقة نائية عنك، أو لا تلتقيه إلا نادراً، فلماذا تشحن روحك في ذاكرته، أو ذاكرة المجتمع المسيء، تجاوز تلك المساحة وحلق بروحك لفضاء أكبر وأفضل، يُرضي الله ويهذب النفس اللوامة، وكلما كانت الجسور في سعيك بين الناس خالصة لله ولضميرك الأخلاقي، كلما وجدت ذلك يرتد إلى قلبك فتجد متعة وأنس.

ولطالما تساءلت لماذا حين اغتنم الأعياد وأصل أهل ود أبي أو والدتي، رغم مشقة البرنامج اليومي في العيد، وهي مشقة محمودة حين تطوف على اقربائك وصحبك وخاصة صحب والديك، فيمتلئ العيد بروح الوصل، فوجدتُ أن الحسابات الشخصية تسقط هنا، ويبقى حق الله لوالديك، فتجد أنسهم في قبورهم يسقي قلبك، في بسمة رفاقهم الجذلين بزيارتك، فهنا جوهر القلب سقاك في عيدك، كل عام وأنت بخير.