ينشغل جاك روسو في تحرير مبادئ الطفولة، بضرورة خلق بيئة تصنع القرار الحر لدى الطفل، حتى يشب قوياً في إرادته، وأن يُجنّب الأوامر والنواهي، التي أطلقها دون ضابط يُحدّد ما هو مناسب للطفل أو لا يناسبه، لأن روسو مهمومٌ بوصوله إلى مرحلة الاستقلال، وأن على الأبوين ترك مساحة استشعار مطلقة للطفل، تُحدّد ما يعجز عن تحقيقه وما هو في متناول يده، وهي من حيث المقصد متطابقة مع الكلمة التي تناقلها المسلمون لعمر بن الخطاب، والتي وجهت لأحد امرائه تقريعاً، (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احراراً).

وهذا القبول والرضى العام للكلمة في تاريخ المسلمين، لكون أن قاعدة القرآن الكلية، قد وصلت إليهم رغم تاريخ الاستبداد الطويل، وهي أن حرية الفرد أصل فطري وتشريعي في الإسلام، وعليه لو كان هذا المنظور قد طبق، وهو تشريع يحميه ويغطّي حرص روسو على ترك الطفل ليجري ويقفز ويتقوى بالإطار البدني، لصناعة أرضيته الحرة.

وفي حين يحذر روسو من تحول الطفل من الحاجة، إلى الاستبداد بسبب طريقة تحقيق مطالبه، أو ترك الدموع تُعبّر عن حاجته، وتعزز خطاب المذلة فيه، يشير إلى أن ذلك يسري في طبقة الأثرياء، ودوماً يحتبس روسو نظريته غير المستكملة بالاختبار والاستطلاع في العالم الطبقي، وهي أزمة ذات، يسعى من خلالها بذر شتلة مقاومة في الجيل الجديد، الذي راهن روسو على أن يحقق الحرية عبره، ورجّح أن يكون في الطبقة البرجوازية والأرستقراطية في فرنسا.

وهو يطارد كل لفظ قد يعني الهوان والتذلل حتى قول (من فضلك) في مفردات الطفل الأولى، ويُفسّر ذلك بأنهُ لا يعني أن يغادر مساحة الأدب، ولكن لإبعاد الطفل عن (نفاق المصطلحات) وأن جفاف لغته وبأسها أفضل لديه من ذلك التلطف، ليعود مزاج روسو الصعب إلى الاضطراب، دون ميزان يحكم عقله.

ونفهم خلاصات روسو في هذا الفصل، حين يدافع عن ترك الطفل يتعرض للمخاطر التي يعيشها البشر، ويحاول شرح قاعدته من جديد، رغم أنهُ قد قرر سابقاً، ألا مشكلة في موت بعض الأطفال بناء على هذه المخاطر، حتى لو كان عددهم كبيراً، فهو يبرر للآباء، بأن الطفل يجب أن يخوض تجربة المخاطر، حتى يعود لهم قوياً في وقت الحاجة.

في ذات الوقت يُحذّر بقوة من الوصول إلى الطفل (الطاغية) وهي كلمة صادمة، نعم إن كل الطغاة والسيئين عبروا مرحلة طفولة، لكن هل يعني ذلك اعتبار بعض السلوك الطفولة طغياناً!، وهو يشرحه في سياق ما رآه من نماذج، من خلال تحذيره المشروع لخطورة تدليل الطفل، وأن التجاوب معه حين يطلب ملعقتك ثم ساعتك ثم.. ثم.. هو معين لهذا التحول النفسي بحسب روسو.

فهو جنوح يحتاج إلى ضبط، ولعله مؤشرٌ محتملٌ، لمبرر عميق لديه كان يحركه، في قرار إلقاء أطفاله في الملاجئ زمن علاقته بتريز، وفي ذات الوقت، ولا تُغفل ملاحظته من خشية ارتواء الطفل بالغيظ والحقد، ولكن السؤال ما هو المرجع التربوي الأخلاقي، الذي يسعى قدر استطاعته، لتوجيه سلوك الطفل، بحسب مبادئ الإصلاح المجربة، والتي تهتدي بمن فطر هذه الطفولة.

في نهاية الأمر تبقى نزعة الذات مسؤولة عن خراب مستقبلها، وتخريب واقع غيرها، ما بعد مرحلة البلوغ (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)، وكما أن روسو اعتمد على تأملاته الذاتية دون استطلاعات علمية وإحصائية، فإن السؤال يوجه له، وهو كم طفلٌ تم تدليله واعطاؤه الساعة وما شابه، حين يلح عليها، لتغير مزاجه أو توتره أو ظهور أسنانه وحرارة جسمه، وكان صالحاً محسناً وخاصة لأبويه، وكم طفلٌ لم يتلقّ ذلك الدلال، ومع ذلك نشأ على سوء طباعٍ بعدها.

وقد يُعذر روسو لكثرة نزعه إلى عالم الملوك وطبقتها، وهو يحيل إلى الطفل المدلل في عالمهم، الذي يُخضع له كل شيء يطلبه، فيتحول إلى (مستبد) يبيح لنفسه نزع حقوق الآخرين، ولكن هذه الحالة لا يمكن أن تنطبق على عالم الطفولة بأجمعه، وليست معياراً لنفسية الطفل بالمطلق.

ويؤوّل روسو موقفه هنا، بأهمية أن نُبعد الطفل عن عالم النزوات، حتى يكون حراً، ويُفهم منه أن تدخل الوالدين أو مبادرتهم بتحقيق بعض رغبات الطفل، أو حجبه عن مواطن الآلام والمخاطر يناقض حريتهم، ويجعلهم أسرى لهذه النزوات، وهم يحتاجون – أي الأطفال- ممارسة هذا الفضاء الحر، وهو فضاءٌ لا يبدو منضبطاً في فلسفة روسو، رغم أهمية آرائه.