يوم 5 يونيو 2017 قررت مجموعة من الدول قطع علاقاتها بقطر.
انظروا إلى هذا التاريخ، هل يذكركم بشيء؟
إنه اليوم الأسوأ في التاريخ العربي المعاصر، عنه نشأت كل الخيبات والانكسارات والانقلابات والديكتاتوريات، عندما شنت إسرائيل عدوانها عام 1967 ضد ثلاث دول عربية، وما قاد إليه ذلك لاحقا من تفكك وكوارث اجتماعية واقتصادية مروعة.
يقول ماركس إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين: مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة.
من المحزن أن تتعرض أي دولة إلى حملة تحريض تقوم على افتراءات، والافتراءات تقوم على فبركات، ثم أكاذيب، وبعدها تُعاقب على كل ذلك الذي لم تقترفه.
حتى الآن لا نعرف على وجه اليقين مبررات المقاطعين، الذين يعتقدون أن في مقدورهم إثناءنا عن مواقفنا ومبادئنا عبر التضييق علينا، ومحاصرة حدودنا البرية والبحرية والجوية.
في البداية كان السبب التصريحات المفبركة المنسوبة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، وما ورد فيها من دعوة للتهدئة مع إيران.
هكذا قالوا، وعلى هذه الموجة اشتغلوا، وبهذه الجوقة عزفوا، على أن الدعوة للحوار مع إيران خط أحمر ومحرم، لكن أليس من الأولى والأدعى أن يتم قطع العلاقات مع إيران أولا؟.. وهل هناك خطأ ما عندما صرح وزير الخارجية السعودي (2015) قائلا: نتطلع لبناء أفضل العلاقات مع إيران بوصفها دولة إسلامية جارة ذات تاريخ وحضارة؟
ما قاله الوزير الجبير هو موقف أساسي، أما الخلاف فكان على الدوام يتعلق بسياسات إيران وتدخلاتها، لكن إيران لم تكن المشكلة، كانت الشرارة التي أرادوها لافتعال الحريق، وعندما تأججت النار وأعمى دخانها الأبصار انتقلوا إلى الافتراء الآخر: دعم الإرهاب، فهذه «وسيلة» السياسة والساسة، والمشجب الذي بات صالحا لتعليق كل الأخطاء عليه، وبما أن الأمر بدا «واسعا» تحولوا إلى اتهام آخر، التدخل في الشؤون الداخلية لدولهم.
نفهم ما حدث منذ قرصنة موقع وكالة الأنباء القطرية يوم 24 مايو، فلقد ظهرت الحقائق كاملة وجلية، عبر هذا التحول المدهش في «تمرير» مسببات الغضب من قطر، وفي الحقيقة فإن الحديث المفبرك المنسوب لصاحب السمو، وادعاء الغضب من دعوة التهدئة مع إيران، إلى اتهام قطر بدعم الإرهاب، وبالتدخل في الشؤون الداخلية للدول التي قطعت علاقاتها، كل ذلك كان مرسوما ومعدا، وكانت قرصنة وكالة الأنباء ساعة الصفر ليس إلا.
نفهم أن هناك من حاك خيوط المؤامرة، حتى قبل أن تتكشف وثائق السفير العتيبة في واشنطن، نفهم أن بعض الأشقاء انساقوا أكثر مما يجب، وربما كانوا ضحية فخ نُصب لهم، ونفهم أن البحرين «تحصيل حاصل» وأن مصر فعلت ما يتسق مع سياستها ومع الحملات التي تشنها على قطر منذ سنوات، لكنني شخصيا لا أفهم موقف اليمن!.
قبل الحديث عن اليمن، دعونا نتوقف عند بيان مملكة البحرين التي اتهمت قطر، في بيان قطع العلاقات، بزعزعة الأمن والاستقرار فيها، والتدخل في شؤونها.
يبدو أن الأشقاء في البحرين بحاجة لما يُنعش ذاكرتهم، وحسبي هنا أن أشير إلى بيان العميد طارق الحسن المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية البحريني، خلال مؤتمر صحفي (2011) حول ضبط خلية تخطط لتنفيذ عمليات إرهابية ضد منشآت حيوية وأشخاص في البحرين، بعد تلقي اتصال رسمي من السلطات الأمنية بدولة قطر، مفاده بأنها تمكنت من القبض على أربعة مواطنين بحرينيين، كانوا قد دخلوا دولة قطر عبر الحدود البرية مع المملكة العربية السعودية، وأثناء اتخاذ السلطات القطرية المختصة، إجراءات التفتيش الجمركية للسيارة التي كانوا يستقلونها، تم العثور على بعض المستندات والأوراق وجهاز حاسوب، تضمنت معلومات ذات أهمية أمنية وتفاصيل عن بعض المنشآت والجهات الحيوية، مشيرا إلى أن السلطات الأمنية بدولة قطر اتخذت إجراءات التحقيق مع المتهمين الذين أقروا بمغادرتهم البحرين بطرق غير مشروعة، بتحريض من آخرين للتوجه إلى إيران، عبوراً بدولتي قطر وسوريا، وذلك بقصد إنشاء تنظيم للقيام بعمليات إرهابية مسلحة بالبحرين ضد بعض المنشآت الحيوية والأشخاص. وفي إطار تنفيذ اتفاقيات التعاون الأمني وتبادل المعلومات، تسلمت السلطات البحرينية، المتهمين الأربعة، مساء الجمعة 4 نوفمبر 2011، لاتهامهم بالتخطيط لتنفيذ جرائم إرهابية، وبسؤالهم عما هو منسوب إليهم من تهم، اعترفوا بأنهم كانوا يستهدفون جسر الملك فهد، ومبنى وزارة الداخلية، والسفارة السعودية بالمملكة وأشخاصا، وفي ختام المؤتمر الصحفي أعرب المتحدث الرسمي بوزارة الداخلية عن خالص شكر الوزارة وتقديرها للسلطات الأمنية القطرية، على ما قامت به من جهود، وما قدمته من تعاون بناء، بشأن ضبط هذه الواقعة، حيث جسد ذلك بالفعل التكامل القائم بين الأجهزة الأمنية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
هذا بيانهم، ولن أضيف عليه شيئا، سوى أن قطر كان لها دور في الكشف عن عدة عمليات لتهريب الممنوعات عبر جسر الملك فهد، أبلغت بها السلطات البحرينية التي كانت تشيد على الدوام بهذا التعاون الأخوي الفعال.
لو أن قطر كانت تستهدف أمن البحرين، ألم يكن في مقدورها «غض الطرف» عن محاولة تفجير جسر الملك فهد، والتفجيرات الأخرى في المنامة، وتجاهل هذه الخلية وتركها لشأنها؟
أعود لليمن، ولو أن حكومة السيد عبد ربه منصور هادي أعلنت أنها قررت قطع العلاقات مع قطر، تضامنا مع المقاطعين، لقلنا لا بأس، الجماعة فعلوا ما فعلوا بدافع الحرج ربما، لكن أن تعلن الحكومة اليمنية قطع علاقاتها مع قطر، بحجة دعم المتمردين الحوثيين، ودعم جماعات متطرفة أخرى، في إشارة للقاعدة، وجنودنا في طليعة المدافعين عن هذا البلد، فإن الأمر تجاوز كونه هزليا، فمنذ بضعة أيام فقط سالت دماء جنودنا دفاعا عن الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية، في إطار مشاركتنا بالتحالف العربي، ولم تكن تلك المرة الأولى، ومع ذلك لم تجد الحكومة اليمنية حرجا في اتهامنا بدعم الحوثيين، وبدعم متطرفين آخرين كالقاعدة.
كيف استقامت لها الأمور، وكيف يمكن أن تفسر دعمنا للحوثيين وللمتطرفين الآخرين وهما على طرفي نقيض؟
لم تأت الانتصارات النوعية المتتالية لقوات الحكومة اليمنية الشرعية والمقاومة الشعبية الداعمة لها، فضلا عن قوات التحالف العربي، بقيادة السعودية، بين ليلة وضحاها، بل ثمرة جهود عسكرية وإنسانية في آن واحد، أسهمت فيها قطر بدور مميز، انطلاقاً من قناعتها بأهمية عودة الحكومة الشرعية لتحقيق أمن واستقرار اليمن وسيادته الوطنية، فضلا عن الحفاظ على أمن المنطقة تجاه التدخلات الخارجية والأطماع التي تتعرض لها من خلال تمويل الطائفية والجماعات الإرهابية.
يقول الله العلي القدير في محكم تنزيله: «قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».
أين براهين التآمر على أمن البحرين أو اليمن أو الإمارات، أو غيرها ممن قطعوا العلاقات، وكالوا الاتهامات؟.
لا شيء سوى بيانات لا تستند إلى أدلة، ولو كان هناك شبه دليل، لتضمنته البيانات وضخمته وسائل الإعلام المأجورة، وعزفت عليه جوقة الردح في قنوات الفتنة.
في موضوع الإرهاب حظيت قطر بإطناب واسع من أكبر محاربي هذه الظاهرة: الولايات المتحدة، وكنا سمعنا الرئيس الأميركي يشيد بقطر «الشريك الاستراتيجي الهام» في محاربة الإرهاب، وبالأمس فقط نقلت «رويترز» عن اللفتنانت جنرال داميان بيكارت المتحدث باسم القيادة المركزية للقوات الجوية الأميركية القول إن «الولايات المتحدة والتحالف الدولي ضد تنظيم داعش بقيادة واشنطن ممتنان لدولة قطر لدعمها الطويل والتزامهما المستمر تجاه الأمن الإقليمي».
هذه شهاداتهم، ممهورة بالأدلة، مقابل شهاداتكم، التي جاءت دون أي دليل، ومن أين يأتي مثل هذا الدليل؟.
دعونا مما هو معروف، ودعونا من دماء جنودنا التي سالت في جنوب المملكة، وقبلها في الخفجي.. دعونا أيضا من إحباط قطر لعمل إجرامي للتخريب في البحرين، ومحاولة تفجير جسر الملك فهد العام 2011، ولنلقي نظرة لابد منها على العلاقات مع الإمارات، حيث خط الأنابيب دولفين المتجه من قطر إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان يعمل كالمعتاد، على الرغم من التطورات الدراماتيكية الأخيرة، وحيث التدفقات مستمرة، عبر أول مشروع غاز عابر للحدود في منطقة الخليج يضخ نحو ملياري قدم مكعبة من الغاز يوميا إلى الإمارات، ولم يكن يوما محل ألاعيب سياسية على الإطلاق، حيث مازالت قطر تؤمن إيمانا راسخا وعميقا بضرورة فصل الاختلافات السياسية عن قضايا التعاون في كل مجال آخر.
دعونا من «دولفين» والإمارات، إلى حيث شحنات الغاز القطري الطبيعي المسال مازالت تصل إلى مصر التي تستورد 857 ألف متر مكعب شهريا في المتوسط من قطر منذ يناير 2016 وفقا لبيانات الشحن البحري على تومسون رويترز أيكون. ويستخدم هذا النوع من الوقود على نطاق واسع في توليد الكهرباء، هذه الشحنات استمرت طوال سنوات طويلة، من عهد مبارك إلى المجلس العسكري، ففترة الحكم الديمقراطي، وصولا إلى يومنا الراهن.
أعود إلى علاقاتنا الخليجية، فقد لعبت قطر على الدوام أدوارا في غاية الأهمية من أجل التقريب، والتوصل إلى قرارات مهمة تدعم تعاوننا، منطلقة من تلك العلاقات العميقة التي تجمع شعوبنا، ومن ضرورة عدم الربط بين الاختلافات السياسية وبين تعزيز التعاون في المجالات الاقتصادية والتجارية والصناعية والاجتماعية والثقافية، لم تترك قطر مناسبة إلا وشددت فيها على ما يجمع وهو كثير، مقابل ما يفرق وهو ضئيل.
علاقاتنا كانت أعمق من رياح الاختلافات والخلافات التي رأينا من ينفخ فيها اليوم، وخليجنا الواحد الذي طالما تغنينا به، بات في مهب رياح سوداء تضمر الشر لجميع أبنائه عبر هدم مكتسباته التي تحققت منذ قيام منظومة مجلس التعاون.
لقد مرت منطقتنا بالكثير وتعرضت لعواصف ضارية، حتى باتت تسمى منطقة الأزمات الصامتة، والمغزى في ذلك أن حكامها وقادتها كانوا حريصين دائما على بقاء تلك الأزمات في حدود لا تتجاوزها، ولا يتدخل الإعلام في حيثياتها، وكانت هناك العديد من الأمور الخطيرة بالفعل عندما تآمرت دولة على أخرى، لن أتطرق لتفاصيلها، فهي معروفة لكل خليجي، ومع ذلك فقد بقيت في منأى عن التعاطي الإعلامي، وكنا كغيرنا من دول الخليج لدينا من الحرص والفطنة الشيء الكثير لمنع هذه القضية من الدخول في باب المهاترات، لأن محاصرة الخلاف كانت الهدف الأساسي.
دعونا من ذلك، ودعونا من المالديف أيضا، ومن ذاك الذي تحدث باسم ليبيا، ولا أعرف ماذا يشغل أو يعمل، مصطفا خلف قرار قطع العلاقات، دعونا من هؤلاء جميعا، ولنفكر الآن في أنفسنا.
هناك مجموعة من الحقائق المهمة جدا لابد لكل مواطن قطري أن يقف أمامها متأملا.
أولا: جميع الإجراءات التي تعرضت لها قطر قامت على أسس واهية وغير صحيحة، وغير أخلاقية، إن الأمر لا يتعلق فقط بالدول التي قطعت علاقاتها بقطر، لكن بتلك التي سخرت وسائل إعلام فاجرة عملت تجريحا وكذبا وإفكا.
ثانيا: وطننا وشعبنا مستهدف، وغاية كل ما نراه فرض الوصاية علينا وانتهاك سيادتنا وحريتنا وتطلعاتنا، وهو أمر نرفضه بشدة، إنه شيء لا مساومة عليه على الإطلاق، وتحت أي ظرف من الظروف، وكما لا نتدخل في سياسة الآخرين وسيادتهم لن نسمح لأحد أن يتدخل في شؤوننا ويملي علينا ما يجب وما لا يجب.
ثالثا: نحن على ثقة بأن حكومتنا لن تتأخر في اتخاذ كل الإجراءات الهادفة إلى منع خنق شعبنا وتدمير حياتنا، وسوف تُفشل كل محاولة للتأثير على مجتمعنا واقتصادنا، وهذا يجب أن يضعنا أمام مسؤولياتنا أيضا، لتفويت الفرصة على المتربصين بنا وبوطننا وبمشروعنا الحضاري كمنارة ومركز للعلم والانفتاح والتواصل بين الثقافات.
رابعا: عدم الالتفات للإشاعات، إذ إن الحملة ضد قطر في مجملها تقوم على إشاعات وفبركات لا أساس لها من الصحة، هدفها فصلنا عن خليجنا، لكننا سنبقى أوفياء لتاريخنا ولشعوبنا الخليجية، ولكل القيم والمبادئ التي اختار البعض أن يدوسها اليوم.
كل ذلك لن يثنينا وسنبقى على العهد، خلف قيادتنا الرشيدة، وفي الطليعة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أميرنا وقائدنا وملهمنا، نعاهده على بذل الغالي والنفيس، لنصرة بلدنا وإبقاء رايته عالية خفاقة بين الأمم، لا يثنينا صعب، ولا ينال من عزيمتنا شيء، وسوف يبقى إيماننا قويا بقطر الخير والعطاء.
ختاما
حسبنا الله ونعم الوكيل، هو نعم المولى ونعم النصير.
بقلم:محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
انظروا إلى هذا التاريخ، هل يذكركم بشيء؟
إنه اليوم الأسوأ في التاريخ العربي المعاصر، عنه نشأت كل الخيبات والانكسارات والانقلابات والديكتاتوريات، عندما شنت إسرائيل عدوانها عام 1967 ضد ثلاث دول عربية، وما قاد إليه ذلك لاحقا من تفكك وكوارث اجتماعية واقتصادية مروعة.
يقول ماركس إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين: مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة.
من المحزن أن تتعرض أي دولة إلى حملة تحريض تقوم على افتراءات، والافتراءات تقوم على فبركات، ثم أكاذيب، وبعدها تُعاقب على كل ذلك الذي لم تقترفه.
حتى الآن لا نعرف على وجه اليقين مبررات المقاطعين، الذين يعتقدون أن في مقدورهم إثناءنا عن مواقفنا ومبادئنا عبر التضييق علينا، ومحاصرة حدودنا البرية والبحرية والجوية.
في البداية كان السبب التصريحات المفبركة المنسوبة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، وما ورد فيها من دعوة للتهدئة مع إيران.
هكذا قالوا، وعلى هذه الموجة اشتغلوا، وبهذه الجوقة عزفوا، على أن الدعوة للحوار مع إيران خط أحمر ومحرم، لكن أليس من الأولى والأدعى أن يتم قطع العلاقات مع إيران أولا؟.. وهل هناك خطأ ما عندما صرح وزير الخارجية السعودي (2015) قائلا: نتطلع لبناء أفضل العلاقات مع إيران بوصفها دولة إسلامية جارة ذات تاريخ وحضارة؟
ما قاله الوزير الجبير هو موقف أساسي، أما الخلاف فكان على الدوام يتعلق بسياسات إيران وتدخلاتها، لكن إيران لم تكن المشكلة، كانت الشرارة التي أرادوها لافتعال الحريق، وعندما تأججت النار وأعمى دخانها الأبصار انتقلوا إلى الافتراء الآخر: دعم الإرهاب، فهذه «وسيلة» السياسة والساسة، والمشجب الذي بات صالحا لتعليق كل الأخطاء عليه، وبما أن الأمر بدا «واسعا» تحولوا إلى اتهام آخر، التدخل في الشؤون الداخلية لدولهم.
نفهم ما حدث منذ قرصنة موقع وكالة الأنباء القطرية يوم 24 مايو، فلقد ظهرت الحقائق كاملة وجلية، عبر هذا التحول المدهش في «تمرير» مسببات الغضب من قطر، وفي الحقيقة فإن الحديث المفبرك المنسوب لصاحب السمو، وادعاء الغضب من دعوة التهدئة مع إيران، إلى اتهام قطر بدعم الإرهاب، وبالتدخل في الشؤون الداخلية للدول التي قطعت علاقاتها، كل ذلك كان مرسوما ومعدا، وكانت قرصنة وكالة الأنباء ساعة الصفر ليس إلا.
نفهم أن هناك من حاك خيوط المؤامرة، حتى قبل أن تتكشف وثائق السفير العتيبة في واشنطن، نفهم أن بعض الأشقاء انساقوا أكثر مما يجب، وربما كانوا ضحية فخ نُصب لهم، ونفهم أن البحرين «تحصيل حاصل» وأن مصر فعلت ما يتسق مع سياستها ومع الحملات التي تشنها على قطر منذ سنوات، لكنني شخصيا لا أفهم موقف اليمن!.
قبل الحديث عن اليمن، دعونا نتوقف عند بيان مملكة البحرين التي اتهمت قطر، في بيان قطع العلاقات، بزعزعة الأمن والاستقرار فيها، والتدخل في شؤونها.
يبدو أن الأشقاء في البحرين بحاجة لما يُنعش ذاكرتهم، وحسبي هنا أن أشير إلى بيان العميد طارق الحسن المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية البحريني، خلال مؤتمر صحفي (2011) حول ضبط خلية تخطط لتنفيذ عمليات إرهابية ضد منشآت حيوية وأشخاص في البحرين، بعد تلقي اتصال رسمي من السلطات الأمنية بدولة قطر، مفاده بأنها تمكنت من القبض على أربعة مواطنين بحرينيين، كانوا قد دخلوا دولة قطر عبر الحدود البرية مع المملكة العربية السعودية، وأثناء اتخاذ السلطات القطرية المختصة، إجراءات التفتيش الجمركية للسيارة التي كانوا يستقلونها، تم العثور على بعض المستندات والأوراق وجهاز حاسوب، تضمنت معلومات ذات أهمية أمنية وتفاصيل عن بعض المنشآت والجهات الحيوية، مشيرا إلى أن السلطات الأمنية بدولة قطر اتخذت إجراءات التحقيق مع المتهمين الذين أقروا بمغادرتهم البحرين بطرق غير مشروعة، بتحريض من آخرين للتوجه إلى إيران، عبوراً بدولتي قطر وسوريا، وذلك بقصد إنشاء تنظيم للقيام بعمليات إرهابية مسلحة بالبحرين ضد بعض المنشآت الحيوية والأشخاص. وفي إطار تنفيذ اتفاقيات التعاون الأمني وتبادل المعلومات، تسلمت السلطات البحرينية، المتهمين الأربعة، مساء الجمعة 4 نوفمبر 2011، لاتهامهم بالتخطيط لتنفيذ جرائم إرهابية، وبسؤالهم عما هو منسوب إليهم من تهم، اعترفوا بأنهم كانوا يستهدفون جسر الملك فهد، ومبنى وزارة الداخلية، والسفارة السعودية بالمملكة وأشخاصا، وفي ختام المؤتمر الصحفي أعرب المتحدث الرسمي بوزارة الداخلية عن خالص شكر الوزارة وتقديرها للسلطات الأمنية القطرية، على ما قامت به من جهود، وما قدمته من تعاون بناء، بشأن ضبط هذه الواقعة، حيث جسد ذلك بالفعل التكامل القائم بين الأجهزة الأمنية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
هذا بيانهم، ولن أضيف عليه شيئا، سوى أن قطر كان لها دور في الكشف عن عدة عمليات لتهريب الممنوعات عبر جسر الملك فهد، أبلغت بها السلطات البحرينية التي كانت تشيد على الدوام بهذا التعاون الأخوي الفعال.
لو أن قطر كانت تستهدف أمن البحرين، ألم يكن في مقدورها «غض الطرف» عن محاولة تفجير جسر الملك فهد، والتفجيرات الأخرى في المنامة، وتجاهل هذه الخلية وتركها لشأنها؟
أعود لليمن، ولو أن حكومة السيد عبد ربه منصور هادي أعلنت أنها قررت قطع العلاقات مع قطر، تضامنا مع المقاطعين، لقلنا لا بأس، الجماعة فعلوا ما فعلوا بدافع الحرج ربما، لكن أن تعلن الحكومة اليمنية قطع علاقاتها مع قطر، بحجة دعم المتمردين الحوثيين، ودعم جماعات متطرفة أخرى، في إشارة للقاعدة، وجنودنا في طليعة المدافعين عن هذا البلد، فإن الأمر تجاوز كونه هزليا، فمنذ بضعة أيام فقط سالت دماء جنودنا دفاعا عن الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية، في إطار مشاركتنا بالتحالف العربي، ولم تكن تلك المرة الأولى، ومع ذلك لم تجد الحكومة اليمنية حرجا في اتهامنا بدعم الحوثيين، وبدعم متطرفين آخرين كالقاعدة.
كيف استقامت لها الأمور، وكيف يمكن أن تفسر دعمنا للحوثيين وللمتطرفين الآخرين وهما على طرفي نقيض؟
لم تأت الانتصارات النوعية المتتالية لقوات الحكومة اليمنية الشرعية والمقاومة الشعبية الداعمة لها، فضلا عن قوات التحالف العربي، بقيادة السعودية، بين ليلة وضحاها، بل ثمرة جهود عسكرية وإنسانية في آن واحد، أسهمت فيها قطر بدور مميز، انطلاقاً من قناعتها بأهمية عودة الحكومة الشرعية لتحقيق أمن واستقرار اليمن وسيادته الوطنية، فضلا عن الحفاظ على أمن المنطقة تجاه التدخلات الخارجية والأطماع التي تتعرض لها من خلال تمويل الطائفية والجماعات الإرهابية.
يقول الله العلي القدير في محكم تنزيله: «قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».
أين براهين التآمر على أمن البحرين أو اليمن أو الإمارات، أو غيرها ممن قطعوا العلاقات، وكالوا الاتهامات؟.
لا شيء سوى بيانات لا تستند إلى أدلة، ولو كان هناك شبه دليل، لتضمنته البيانات وضخمته وسائل الإعلام المأجورة، وعزفت عليه جوقة الردح في قنوات الفتنة.
في موضوع الإرهاب حظيت قطر بإطناب واسع من أكبر محاربي هذه الظاهرة: الولايات المتحدة، وكنا سمعنا الرئيس الأميركي يشيد بقطر «الشريك الاستراتيجي الهام» في محاربة الإرهاب، وبالأمس فقط نقلت «رويترز» عن اللفتنانت جنرال داميان بيكارت المتحدث باسم القيادة المركزية للقوات الجوية الأميركية القول إن «الولايات المتحدة والتحالف الدولي ضد تنظيم داعش بقيادة واشنطن ممتنان لدولة قطر لدعمها الطويل والتزامهما المستمر تجاه الأمن الإقليمي».
هذه شهاداتهم، ممهورة بالأدلة، مقابل شهاداتكم، التي جاءت دون أي دليل، ومن أين يأتي مثل هذا الدليل؟.
دعونا مما هو معروف، ودعونا من دماء جنودنا التي سالت في جنوب المملكة، وقبلها في الخفجي.. دعونا أيضا من إحباط قطر لعمل إجرامي للتخريب في البحرين، ومحاولة تفجير جسر الملك فهد العام 2011، ولنلقي نظرة لابد منها على العلاقات مع الإمارات، حيث خط الأنابيب دولفين المتجه من قطر إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان يعمل كالمعتاد، على الرغم من التطورات الدراماتيكية الأخيرة، وحيث التدفقات مستمرة، عبر أول مشروع غاز عابر للحدود في منطقة الخليج يضخ نحو ملياري قدم مكعبة من الغاز يوميا إلى الإمارات، ولم يكن يوما محل ألاعيب سياسية على الإطلاق، حيث مازالت قطر تؤمن إيمانا راسخا وعميقا بضرورة فصل الاختلافات السياسية عن قضايا التعاون في كل مجال آخر.
دعونا من «دولفين» والإمارات، إلى حيث شحنات الغاز القطري الطبيعي المسال مازالت تصل إلى مصر التي تستورد 857 ألف متر مكعب شهريا في المتوسط من قطر منذ يناير 2016 وفقا لبيانات الشحن البحري على تومسون رويترز أيكون. ويستخدم هذا النوع من الوقود على نطاق واسع في توليد الكهرباء، هذه الشحنات استمرت طوال سنوات طويلة، من عهد مبارك إلى المجلس العسكري، ففترة الحكم الديمقراطي، وصولا إلى يومنا الراهن.
أعود إلى علاقاتنا الخليجية، فقد لعبت قطر على الدوام أدوارا في غاية الأهمية من أجل التقريب، والتوصل إلى قرارات مهمة تدعم تعاوننا، منطلقة من تلك العلاقات العميقة التي تجمع شعوبنا، ومن ضرورة عدم الربط بين الاختلافات السياسية وبين تعزيز التعاون في المجالات الاقتصادية والتجارية والصناعية والاجتماعية والثقافية، لم تترك قطر مناسبة إلا وشددت فيها على ما يجمع وهو كثير، مقابل ما يفرق وهو ضئيل.
علاقاتنا كانت أعمق من رياح الاختلافات والخلافات التي رأينا من ينفخ فيها اليوم، وخليجنا الواحد الذي طالما تغنينا به، بات في مهب رياح سوداء تضمر الشر لجميع أبنائه عبر هدم مكتسباته التي تحققت منذ قيام منظومة مجلس التعاون.
لقد مرت منطقتنا بالكثير وتعرضت لعواصف ضارية، حتى باتت تسمى منطقة الأزمات الصامتة، والمغزى في ذلك أن حكامها وقادتها كانوا حريصين دائما على بقاء تلك الأزمات في حدود لا تتجاوزها، ولا يتدخل الإعلام في حيثياتها، وكانت هناك العديد من الأمور الخطيرة بالفعل عندما تآمرت دولة على أخرى، لن أتطرق لتفاصيلها، فهي معروفة لكل خليجي، ومع ذلك فقد بقيت في منأى عن التعاطي الإعلامي، وكنا كغيرنا من دول الخليج لدينا من الحرص والفطنة الشيء الكثير لمنع هذه القضية من الدخول في باب المهاترات، لأن محاصرة الخلاف كانت الهدف الأساسي.
دعونا من ذلك، ودعونا من المالديف أيضا، ومن ذاك الذي تحدث باسم ليبيا، ولا أعرف ماذا يشغل أو يعمل، مصطفا خلف قرار قطع العلاقات، دعونا من هؤلاء جميعا، ولنفكر الآن في أنفسنا.
هناك مجموعة من الحقائق المهمة جدا لابد لكل مواطن قطري أن يقف أمامها متأملا.
أولا: جميع الإجراءات التي تعرضت لها قطر قامت على أسس واهية وغير صحيحة، وغير أخلاقية، إن الأمر لا يتعلق فقط بالدول التي قطعت علاقاتها بقطر، لكن بتلك التي سخرت وسائل إعلام فاجرة عملت تجريحا وكذبا وإفكا.
ثانيا: وطننا وشعبنا مستهدف، وغاية كل ما نراه فرض الوصاية علينا وانتهاك سيادتنا وحريتنا وتطلعاتنا، وهو أمر نرفضه بشدة، إنه شيء لا مساومة عليه على الإطلاق، وتحت أي ظرف من الظروف، وكما لا نتدخل في سياسة الآخرين وسيادتهم لن نسمح لأحد أن يتدخل في شؤوننا ويملي علينا ما يجب وما لا يجب.
ثالثا: نحن على ثقة بأن حكومتنا لن تتأخر في اتخاذ كل الإجراءات الهادفة إلى منع خنق شعبنا وتدمير حياتنا، وسوف تُفشل كل محاولة للتأثير على مجتمعنا واقتصادنا، وهذا يجب أن يضعنا أمام مسؤولياتنا أيضا، لتفويت الفرصة على المتربصين بنا وبوطننا وبمشروعنا الحضاري كمنارة ومركز للعلم والانفتاح والتواصل بين الثقافات.
رابعا: عدم الالتفات للإشاعات، إذ إن الحملة ضد قطر في مجملها تقوم على إشاعات وفبركات لا أساس لها من الصحة، هدفها فصلنا عن خليجنا، لكننا سنبقى أوفياء لتاريخنا ولشعوبنا الخليجية، ولكل القيم والمبادئ التي اختار البعض أن يدوسها اليوم.
كل ذلك لن يثنينا وسنبقى على العهد، خلف قيادتنا الرشيدة، وفي الطليعة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أميرنا وقائدنا وملهمنا، نعاهده على بذل الغالي والنفيس، لنصرة بلدنا وإبقاء رايته عالية خفاقة بين الأمم، لا يثنينا صعب، ولا ينال من عزيمتنا شيء، وسوف يبقى إيماننا قويا بقطر الخير والعطاء.
ختاما
حسبنا الله ونعم الوكيل، هو نعم المولى ونعم النصير.
بقلم:محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول